هو من جهابذة الفكر والثقافة في السعودية، ومن قامات الإعلامَين المكتوب والمرئي، ومن الذين حفروا في الصخر حتى غدا شخصية يشار إليها بالبنان في وطنه وخارجه.
لم يكن الطريق أمامه مفروشًا بالورود، ولم تكن حالته الصحية تسمح له بالقفز كثيرًا بسبب إصابته في إحدى قدميه، لكنه بالصبر والإرادة والعزيمة قهر إعاقته وتجاوز كل الصعاب وجعل المستحيل ممكنًا ووصل إلى قمة الشهرة صديقًا لكبار المثقفين والأدباء والساسة والفنانين يحاورهم ويستنطق المسكوت في سيرهم ويسبح في بحارهم ويجادلهم في نظرياتهم، مستخدمًا فصاحته اللغوية تارة ومطالعاته الكثيفة عنهم تارة أخرى، وقراءاته المعمقة في مؤلفاتهم تارة ثالثة، وتعليقاته المستفزة تارة رابعة، فكانت المحصلة كنزًا معرفيًا وثوثيقيًا رصينًا تجسد في أكثر من 1000 ساعة من البرامج الحوارية المتلفزة التي سجلها لصالح التلفزيون السعودي وتلفزيون الشرق الأوسط MBC من خلال برامج جذبت المشاهد العربي وأمتعته مثل: «هكذا تحدثوا»، «الساعة تدق كلمة»، «وجها لوجه»، «حدث وحوار»، «هذا هو»، «شؤون الساعة»؛ «مع المشاهير»، «ما بين أيديهم»، «ستون دقيقة سياسة»، «خارج الأقواس»، دعك من مئات المقالات التي نشرها في الصحافة السعودية والمهاجرة في الأدب والفكر والثقافة والمجتمع والفن والإقتصاد والسياسة والتاريخ منذ أن كان مراسلاً لجريدة اليوم في الرياض وهوعلى مقاعد الدراسة الجامعية، ولاسيما عموده الجميل «أصوات» بجريدة الرياض الذي نجح فيه نجاحًا ملفتًا.
هذا هو الإعلامي والكاتب السعودي العصامي محمد رضا نصرالله (يكنى بأبي سلام وأبي أنس لكنه يفضل كنية أبي أوراد)، إبن الساحل الشرقي من المملكة العربية السعودية.
ولد محمد في القطيف، التي وصفها مواطنه محمد سعيد المسلم في كتابه «ساحل الذهب الأسود» بـقلعة التاريخ العبق وموطن الحضارات القديمة ومصدر الخير والنماء، في عام 1952 لأب من أعيان القطيف هو الحاج منصور بن حسن بن نصرالله المنحدر من أسرة «آل أبو السعود» المعروفة المنحدرة بدورها من آل البيات، وأم هي إبنة الحاج عبدالله بن نصرالله بن مهدي بن أحمد بن محمد بن نصرالله. والأخير ــ طبقًا لما كتبه السيد علي بن السيد باقر العوامي في مجلة الخط (العدد 45 ــ أكتوبر 2014) ــ لعب دورًا هامًا في المجتمع القطيفي لجهة التوسط بين الأهالي والدولة في المشاكل الاقتصادية كالضرائب والزكوات قبل اكتشاف النفط، بدليل وجود الكثير من المراسلات بينه وبين الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود رحمه الله الذي أعجب به عند لقائهما في الأحساء سنة 1341 للهجرة فولاه بيت مال القطيف في زمن كانت فيه القطيف مركز ثقل اقتصادي.
ولعل ما أهّـل الحاج عبدالله (جد صاحبنا لأمه) للعب الدور المذكور هو أنه سليل أسرة سياسية كانت لها أدوار هامة في تاريخ منطقته زمن الحكم العثماني للأحساء والقطيف وزمن الدولة السعودية الثانية، وهو ما جعل محمد شخصية عاشقة ومخلصة للوطن ومنافحة عن وحدته ونظامه الشرعي. من جهة أخرى، كان والده الحاج منصور قارئًا نهمًا ليس للمؤلفات الدينية التقليدية فحسب وإنما أيضًا لكتب الشعر والتاريخ والتراث إلى درجة أنه كون مكتبة ضخمة من أمهات الكتب في مختلف العلوم والمعارف. لذا لم يكن غريبًا أن يتعلق محمد منذ سنواته المبكرة بالكتاب والمكتبة يغرف منهما ما يشاء من المعارف ويستنجد بهما إذا ما استعصى عليه أمر، بل ويتحمل عقوبة والده إن قسى على الكتاب بالخربشة على صفحاته. والحال أن محمدًا كبر وكبر معه عشقه للكتاب والزاد المعرفي إلى حد أن الكتاب صار ملازمًا له في كل مكان وفي أي وقت بحسب قوله، وهذا ما ساعده لاحقًا على شق طريقه في بلاط صاحبة الجلالة بثبات.
بعد أن أنهى الرجل دراسته الأولية في القطيف سافر سنة 1973 إلى الرياض للتخصص في الإعلام بجامعة الملك سعود. هناك حدث ما جعله يغير مساره من الإعلام إلى اللغة العربية وكان السبب حسب روايته هو الأديب والناقد الدكتور منصور الحازمي عميد كلية الآداب في الجامعة وقتذاك. وعلى أية حال فإنه كسب اللغة العربية وفصاحتها وآدابها ولم يخسر الإعلام.
تخرج صاحبنا من كلية الآداب حاملاً ليسانس اللغة العربية سنة 1975 فسارع إلى رمي نفسه باكرًا في خضم بحر الصحافة السعودية التي كانت وقتها ناشئة وتفتقر إلى تقاليد راسخة، ناهيك عن أن الرجل كان وقتذاك قليل الحيلة زهيد العلاقات والاتصالات، ولا يملك من حطام الدنيا سوى شهادته الجامعية وطموحات لا حدود له في إثبات الذات. لكن قبل أن يدخل بلاط صاحبة الجلالة رسميًا، كان شغف لقاء عمالقة الفكر والأدب العرب ممن سمع عنهم وقرأ لهم يضغط عليه، فقرر في صيف 1974، وهو لم يزل شابًا في مقتبل العمر، أن يسافر إلى مصر بحثًا عن توفيق الحكيم ونجيب محفوظ.
قاده بحثه إلى الإسكندرية التي قضى فيها شهرين كاملين كان خلالهما يتردد يوميًا على مقهى يوناني يجتمع فيه عمالقة الأدب المصريين. هناك لم ير الحكيم ومحفوظ فقط وإنما التقى أيضًا بيوسف إدريس وإحسان عبدالقدوس وعبدالرحمن الشرقاوي وأحمد بهاء الدين وثروت أباظة وغيرهم، وخرج من عندهم بأحاديث صحفية مثيرة، خصوصًا وأن تلك الفترة تميزت بنقاشات واسعة حول كتاب الحكيم «عودة الوعي» الذي تبرأ فيه من ماضيه الناصري، منتصرًا وداعمًا للخط الساداتي. وقبل أن يسافر إلى القاهرة، بل قبل أن يصل إلى الرياض للدراسة الجامعية، كان محمد من أوائل من عملوا وكتبوا في جريدة اليوم الصادرة من الدمام. إذ بدأ يكتب لها مقالات أدبية وهو في المرحلة المتوسطة، وجذبه العمل الصحفي إلى درجة أنه أهمل الانتظام في دراسته الثانوية وفضل عليه نظام تعليم المنازل.
حينما عاد محمد من مصر التقى بالصحفي الكبير تركي السديري رحمه الله الذي كان وقتها قد عين رئيسًا لتحرير «الرياض»، فأخبره أنه آت للتو من مصر وبحوزته حوارات أجراها هناك مع أدباء مصر الكبار، وسوف يقوم بنشرها تباعًا في مجلة اليمامة التي كانت قد فتحت ذراعيها له زمن رئيس تحريرها محمد الشدي. وكي يكسب السديري لصحيفته سبق النشر ويفوز بموهبة محمد الصحافية وشغفه بالثقافة، قرر تعيينه فورًا محررًا في جريدته، ثم عينه لاحقًا مشرفًا على القسم الثقافي فمديرًا لتحرير جريدة الرياض الأسبوعي في عام 1983. وهكذا انطلق الرجل مذاك يمخر عباب مهنة المتاعب دون كلل، ويحقق لقلمه صيتًا رفيعًا، مما جعل الأنظار تتجه إليه كشاب طموح لديه الكثير مما يقدمه ويرفع به اسم وطنه.
كان محمد في سن الخامسة والعشرين أو أقل حينما تشكلت «حكومة الدكاترة» في عهد المغفور له الملك خالد. وقتذاك آلت حقيبة الإعلام إلى الدكتور محمد عبده يماني وشغل منصب وكيل الوزارة الدكتور عبدالعزيز خوجة الذي أراد أن يحدث نقلة نوعية في جهاز التلفزيون السعودي بإدخال برامج حوارية متميزة غير رتيبة، حيث لم يكن في مكتبة التلفزيون آنذاك سوى شريط يتيم يخص حوارًا أجراه المذيع الراحل ماجد الشبل مع عميد الأدب العربي طه حسين.
ما حدث هو أن اختيار خوجة وقع على محمد تحديدًا لتنفيذ تلك البرامج الحوارية. وفي سبيل تحقيق المهمة الموكلة إليه سافر صاحبنا إلى مختلف البلاد العربية والأجنبية مبتدأ بمصر قلعة الأدباء والمفكرين ونجوم الفن والسياسة، حيث سجل ــ مستعينًا بواحد من أفضل المخرجين السعوديين وهو سعد الفريح ــ أولى الحلقات مع يوسف إدريس في يوم اغتيال الأديب يوسف السباعي في قبرص، وكانت ثانيتها مع توفيق الحكيم الذي فاجأه بطلب مكافأة مقدارها ألف جنيه قبل التسجيل لمدة نصف ساعة فقط. وبعد أن فرغ من مصر انتقل إلى سوريا فإلى العراق الذي كان صدام حسين قد أصبح رئيسها خلفًا لأحمد حسن البكر. ويروي الرجل هنا أنه كان عازمًا على إجراء حوار مستفيض مع رجل العراق القوي، وأعد لذلك أسئلة استثنائية مستفزة كي يجول في أغوار ضيفه كعادته، لكن ما إن اطلع عليها وزير الإعلام العراقي آنذاك «لطيف نصيف جاسم» حتى انتفض. وصادف أن التقى محمد بعد ذلك، خلال حفل مسائي بمن همس في إذنه بضرورة مغادرة العراق على عجل. في تلك الليلة لم ينم صاحبنا ولم يأمن على روحه إلا وهو في الجو عائدًا إلى وطنه.
بعدها اتجه صوب بلاد المغرب العربي ليستنطق مبدعي ومفكري وساسة هذه البلاد الذين لم يكن أحد في المشرق يعرف عنهم الكثير في تلك الحقبة. وعندما كان في الرباط صادف أن حلّ بها بالتزامن الوزير محمد عبده يماني الذي بادره بالسؤال عن نتائج المهمة الموكلة إليه، فكان جوابه «أنهينا تسجيل 80 حلقة»، فإذا بالوزير غير المصدق يرد ساخرًا «80 حلقة مع مغنيات وراقصات؟»، وهو ما حزّ في نفس محمد كثيرًا، مما جعله يؤجل إلى حين تسليم حلقاته إلى التلفزيون السعودي بحجة أنه مضطر للسفر إلى لندن للعلاج، وكان بالفعل مسافرًا إلى بريطانيا للاستشفاء بعد أن توسط له وزير الصحة الدكتور غازي القصيبي لدى الملك خالد لذلك الغرض.
تقديرًا لأعماله وجهوده الأدبية والصحفية والثقافية والإعلامية المنوه عنها في الأسطر السابقة، استحق الرجل تكريم جامعة الخليج في البحرين بمنحه ميدالية الجامعة، كما نال لذات الأسباب وسام الاستحقاق من عاهل بلاده. غير أن التكريم الأكبر جاءه في عام 2004 حينما صدر مرسوم ملكي بتعيينه عضوًا في مجلس الشورى السعودي، وهي العضوية التي حافظ عليها خلال ثلاث دورات، أي لمدة 12 سنة متواصلة انتهت في عام 2016. وقد استثمر محمد هذه العضوية خير استثمار للدفع باقتراحات وتوصيات جريئة مع زملائه لتغيير الواقع السعودي اجتماعيًا وثقافيًا وإداريًا. حيث كان أول من طالب بإنشاء وزارة للبيئة في المملكة، وكان أول من سعى إلى سن نظام يجرم التمييز المذهبي والقبلي والمناطقي مع وضع عقوبات رادعة على المتجاوزين بهدف حماية الوحدة الوطنية، داعيًا في السياق نفسه إلى نزع كل ما يخالف ذلك من مناهج التعليم وتأسيس خطاب ثقافي جامع لكل أطياف المجتمع ومكوناته. كما تزعم فريقًا في مجلس الشورى في عام 2008 لمطالبة وزير الثقافة والاعلام آنذاك د. إياد أمين مدني بإنشاء هيئة وطنية للمسرح والسينما. وقبل ذلك، ومن خلال مقالاته الصحفية، دعا إلى إنشاء وزارة لشؤون المرأة مستقلة عن وزارة الشؤون الاجتماعية، وألح على وزير التخطيط الأسبق هشام ناظر بضرورة إدخال التنمية الثقافية في خطط التنمية العامة كي تضيق الفجوة بين فعالية مشروعات التنمية وسكونية المجتمع إلى أن تم الأخذ برأيه في خطة التنمية الرابعة. وحينما تولى رئاسة لجنة الثقافة والإعلام في مجلس الشورى طالب بإعادة هيكلة القطاع الثقافي بصورة تتحقق معها تطلعات المثقفين والأدباء والفنانين من الجنسين في قيادة نهضة ثقافية توازي مستوى النمو المادي وتتفاعل مع الحراك الاجتماعي للمجتمع. وبعد أن أصبح أمينًا عامًا للهيئة الاستشارية للثقافة دعا إلى عقد أول ملتقى ثقافي يستضيف المثقفين من الجنسين. وتحقق له ذلك في عام 2004، فانعقد الملتقى برعاية وحضور أمير الرياض آنذاك الملك سلمان بن عبدالعزيز.
صحيح أن أول من سجل حلقات حوارية متلفزة هو الإعلامي المصري طارق حبيب، لكن الأخير اقتصر عمله على محاورة مواطنيه من عمالقة الأدب والفكر، على العكس من محمد الذي حاور المشاهير من سعوديين وخليجيين وعرب وأجانب، بدليل أن قائمته اشتملت على توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وزكي نجيب محمود ويوسف إدريس وأحمد بهاء الدين وأنيس منصور وأحمد كمال أبوالمجد وحسن ظاظا والفيلسوف عبدالرحمن بدوي والدكتورة بنت الشاطي والمفكر اليساري لطفي الخولي، ومحمد مهدي الجواهري وبلند الحيدري ونزار قباني وأدونيس وفدوى طوقان وسميح القاسم ونزار قباني وسعيد عقل، والطاهر وطار وعبدالحميد بن هدومة وآسيا جبار وشكري عياد وعلي مصطفى المصراتي ومحمد عابد الجابري ومحمد المزالي والشاذلي القليبي والهادي نويرة،
وفاروق الشرع وحنان عشراوي وفيصل الحسيني، وصموئيل هينجنتون (صاحب نظرية صراع الحضارات) والمفكر الأمريكي بول فندلي والدبلوماسي الألماني المسلم مراد هوفمان والمستشرق الفرنسي جاك بيرك، علاوة على د. محمد جابر الأنصاري والشيخ علي الطنطاوي و د. غازي القصيبي ومحمد حسن عواد وحسين سرحان والشيخ حمد الجاسر ومحمد حسن فقي والوزير الشاعر عبدالله بلخير وأحمد السباعي وعزيز ضياء. وبهذا حقّ له أن يُوصف بأول من فتح نوافذ الفكر المعاصر تلفزيونيًا، والرجل الذي أرشف مثقفي العرب، خصوصًا وأنه أنجز أعماله الحوارية المتلفزة تلك في فترة الذروة الفكرية حينما كان عمالقة الفكر ينجزون إبداعاتهم وهم يفتقرون إلى أدوات الاطلاع والكتابة والاستقصاء المتاحة اليوم لدى المبدعين الجدد.
ساهم أبو أوراد في تأسيس نادي الرياض الأدبي سنة 1974، وفي السنة نفسها ساهم في تقديم طلب لإنشاء نادي المنطقة الشرقية الأدبي.
روى الرجل أن خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك فهد بن عبدالعزيز كان صاحب شغف كبير بمتابعة الحوارات التي أجراها، ويدلل على ذلك بحادثة انقطاع بث الحلقة التي حاور فيها توفيق حول عملية السلام، حيث اكتشف أن الملك فهد، وكان وقتها وليًا للعهد، أمر بذلك كي يتسنى لوزير الإعلام الدكتور يماني أن يظهر قبل ذلك على الشاشة ليوضح موقف المملكة من عملية السلام. وقد رضخ محمد لرغبة ولي العهد في استضافة ومحاورة الوزير يماني، رغم حرصه على عدم استضافة المسؤولين والرسميين كي يجعل برنامجه نافذة مطلة حصريًا على آفاق الفكر المعاصر.