بدماثة خلقه وعلمه الوفير واكتشافاته الأثرية العظيمة تتلخص قصة شغف طويلة بعالم التنقيب والآثار، إنه الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري، الذي يعدّ أحد مؤسسي علم الآثار في المملكة العربية السعودية، وهو أول من نفذ أعمال مسح أثري في مختلف مناطق المملكة، وأول من قام بالتنقيب الأثري المنظم في موقع الفاو الأثري، ويعد أيضا من كبار المتخصصين الدوليين في دراسة آثار الجزيرة العربية والنقوش العربية القديمة، وهو أيضاً أول من أسس شعبة لدراسة الآثار في قسم التاريخ بجامعة الملك سعود لتصبح لاحقاً قسماً للآثار ثم كلية، وهو من أوائل أعضاء هيئة التدريس السعوديين حملة الدكتوراه في جامعة الملك سعود، وأول عميد سعودي لكلية الآداب في جامعة الملك سعود، وله العديد من الكتب والأبحاث المنشورة والإسهامات العلمية في المؤتمرات والندوات داخل المملكة وخارجها.
يعدّ الأنصاري قامة علمية وقدرة وطنية ورجل مبادرات، وأسهم بعلمه وجهده ومثابرته في إبراز تراث الوطن في المحافل الدولية، وبالرغم من اكتشافاته العظيمة والمفيدة في التراث والآثار، بيد أن أهم اكتشافاته الكبرى هو جيل الآثاريين الذين تتلمذوا على يديه، ليكملوا مسيرته من بعده، في احدى حلقات من برنامج (ما بين أيديهم) مع الزميل، الكاتب والإعلامي محمد رضا نصرالله، قدّم الدكتور الأنصاري بعضًا من سيرته ومسيرته، محاولًا في ثنايا الحديث التعريف بتراث المنطقة العربية وعمقها الحضاري، كاشفًا عن بعض اللحظات الهامة في رحلته الطويلة والعامرة بالعلم والعمل.
بداية الرحلة
* قد لا نتجاوز الحقيقة عندما نصف ضيفنا بأنه واحدٌ من أبرز المهتمين بالتاريخ الأركيولوجي للجزيرة العربية، فله في ذلك أبحاث وإنجازات، ومن يعرف الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري لا بد وأن يذكر مشروع الفاو، والذي من خلال اكتشافاته التاريخية حاول أن يقدم تفسيرًا جديدًا للتاريخ العربي القديم،
في هذا الحوار؛ سوف نسوح مع الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري في جملة من القضايا، قد تبدأ بالفاو، فإلى أين وصل هذا المشروع؟، وأين الدكتور الانصاري من هذا المشروع أيضا؟، وأين تلامذته وإلى أين وصلوا معه مشمرين السواعد للبحث عن حفريات جديدة وأسرار تاريخية غير معروفة؟
** الحقيقة أن هذا السؤال يعيدني إلى الوراء لما يقارب الثلاثين عامًا خلت، والتي بدأت خلالها أبحث عن مكان مناسب لإجراء تنقيبات أثرية، حيث عدت من بريطانيا وأنا متخوف من ألا يكون للآثار مكانة في هذا البلد، ولكن لله الحمد بعد وصولي وجدت اهتمامًا بها، وكان لجامعة الرياض آنذاك على يد وكيلها الدكتور عبدالعزيز الخويطر، دور كبير جدا في تشجيعي على البحث في مجال الآثار، وأنا كنت متحمسًا أشد الحماس عند عودتي فأنشأت جمعية الآثار في عام 1386هـ (1966م)، وكانت جمعية ليست أكاديمية بالمفهوم الحقيقي ولكنني أردت منها نشر الوعي الأثريّ بين الطلاب، وكان معظم الذين يشتركون فيها هم من طلاب أقسام التاريخ والجغرافيا واللغة العربية بكلية الآداب، وكنا نقوم برحلات مختلفة إلى مناطق أثرية، قمت بكل ذلك لكن في قرارة نفسي وفي ذهني أنني بحاجة إلى اختيار موقع مناسب.
في نفس العام 1386هـ، صدر كتاب الشيخ حمد الجاسر «مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ»، وجدت في نهاية الكتاب ترجمة لمقال لفيلبي كتبه عن قرية الفاو، وفي الحقيقة عندما قرأت هذا المقال قررت البحث عن قرية الفاو، وذهبنا إلى هذا الموقع ووجدنا موقعًا ضخمًا حيث كانت مدينة بأكملها تحت الرمال، وبدأنا في التنقيب عام 1392هـ، وبتوفيق من الله اكتشفنا أشياء كثيرة جدا، واستمرينا في التنقيب هناك لـ 20 عامًا، ثم بعد ذلك انتقلت إلى مجلس الشورى، وخلال تلك الفترة كنت أجمع المعلومات بطريقة منهجية عن الموقع والملتقطات، لكن الوقت لم يكن يسعفني كثيرًا بسبب جمعي بين أكثر من مهمة؛ بين الإدارة والتدريس والبحث العلمي، لكن بعد أن تفرّغت من المجلس بدأت أجهّز نفسي لإعداد كافة المعلومات عن قرية الفاو وتجهيزها كي تظهر بصورة متكاملة.
رحلات فيلبي
* لنعد إلى جون فيلبي، واهتمامه بدراسة تاريخ الجزيرة العربية ورحلاته أيضا، وكذلك إلحاحه على زيارة الربع الخالي، نريد هنا أن نتحدث عن هذا، وأين اكتشف مكانة الفاو من خلال الكتب المرجعية في تاريخ الحضارات العربية القديم؟
** جون فيلبي ـ وكغيره من الرحالة ـ لا يختلف عنهم كثيرًا في الأهداف والمقاصد، وقد استفاد من قربه من الملك عبدالعزيز (رحمه الله)، حيث أتاح له فرصة كبيرة جدا في التجول في الجزيرة العربية، ولكنه لا زالت تدق في ذهنه ما يدق في ذهن كل رحالة أو مستشرق، وهو أنه كان يبحث عن أشياء تستفيد منها أوروبا، ولو درس أي شخص كتاب فيلبي «أرض مدين» أو «The Land of Midian»، الذي تُرجِمَ بالخطأ إلى «أرض الأنبياء»، سيجد أنه منذ أن بدأ من المدينة إلى مصر إلى خيبر وغيرها، وهو يبحث عن أماكن اليهود، وأين كانوا وكيف كانوا يعيشون وغيرها من أحوال حياتهم القديمة، وكان يبحث عن نقوش يهودية، ولم يجد ـ ولله الحمد ـ أي شئ، وأيضا في كتابه «مرتفعات عسير» أو «Arabian Highlands»، سنجد أنه كان يبحث أيضا عن اليهود وأماكنهم ويبحث عن كل شئ يخصهم، وعندما يجد نقوشًا كان يأخذها ويهتم بها ويرسلها إلى الأساتذة الغربيين في ذلك الوقت.
في تلك الأثناء، كان يستفيد من كل ذلك وبدأ يكتب عن تاريخ الجزيرة العربية، وأصبحت له قوائم من ملوك سبأ ونعيم وحضرموت، لكنها ليست على المستوى الذي يمكنه من أن يكون عالمًا بالتاريخ، وفي الخمسينات الميلادية أتى فيلبي بفريق من الباحثيين الأوروبيين، مثل: جاك ريكمانز وفيليب ليبنز، وطاف بهم بدءًا من نجران إلى عسير والفاو وغيرها، وكتبوا عن الفاو وأخرجوا الكثير من النقوش حيث أرسلوها إلى أوروبا، وخلال رحلة فيلبي إلى نجران وجد نصف تمثال لأسد، وتوسط لدى الملك سعود (رحمه الله) بأن يتركه يأخذ هذا التمثال إلى المتحف البريطاني، وقد نجحت وكالة الآثار في الفترة الاخيرة في استعادة هذا التمثال.
رحالة الغرب في الجزيرة
* دكتور عبدالرحمن؛ يبدو أن لرحلة فيلبي إلى صحراء الجزيرة العربية جاءت ضمن سلسلة اهتمامات الرحالة الأوروبيين بالجزيرة العربية، حيث كانوا يأتون عبر ظروف قاسية من استكشاف المنطقة، فهل لك أن تحدثنا عن بواعث هذه الرحلات، ولماذا كانوا يختارون الجزيرة العربية تحديدًا؟
** هذه الرحلات لم تكن إلى الجزيرة العربية فقط، فقد كانت نحو كل بلاد المشرق العربي، مثل بلاد الشام ومصر والعراق وبلاد المغرب العربي، وإذا كان الرحالة قد قدموا إلى الجزيرة العربية، فإنهم بنوا مدارس للاستشراق في تلك البلدان الأخرى، والتي كانت تعدّ نافذة لتلك الدول الغربية في العالم العربي، على سبيل المثال.. مثل المعهد الفرنسي والمعهد الألماني في مصر، وغيرها من معاهد ومراكز في سوريا وفلسطين وغيرها، وكان أغلب علماء الآثار والمستشرقين والرحالة هم في حقيقتهم عملاء لاستخبارات تلك الدول، وإلى وقتنا الحاضر نجد في اليمن مجموعة من هذه المدارس، كالمدرسة الألمانية والفرنسية والبريطانية والأمريكية والإيطالية وغيرها، هؤلاء يدرسون الآثار ولكنهم أيضا يدرسون المجتمع كذلك وما يدور داخله.
أما الجزيرة العربية آنذاك فقد كانت خالية من إمكانية إقامة هذه المراكز، لذلك فإن هؤلاء الرحالة كانوا يتدربون في مصر وسوريا وفلسطين على دراسة اللغة العربية وكيفية الاتصال بالقبائل، ثم يأتون إلى الجزيرة بعد ذلك وهم جاهزون للتعامل مع الأمور هنا، ولعل من أشهر الرحالة الذين قدموا إلينا خلال القرن الماضي، نجد أنتونين جوسين، ورافايل سافينياك، حيث تدربا تدريبًا واسعًا في لبنان قبل المجئ إلى الجزيرة، وعندما تقرأ وصفهم لشمال المملكة، ومنذ خروجهم من القدس ووصولهم إلى تيماء، كأنك تقرأ تقريرًا استخبارتيًا يريد أن يأتي خلفهما جيش لاحتلال الجزيرة العربية، فإلى جانب وصفهم الدقيق لكل شئ، كانوا يرسمون الخرائط ووصف القبائل وعاداتهم وأفرادها وكذلك صفات الأشخاص وولائهم.
* لكن لو تحدثنا عن محمد أسد، هذا العالم الرحالة الذي أسلم في عهد الملك عبدالعزيز، نلاحظ في كتابه «الطريق إلى مكة» أنه قام بعملية اختراق للجزيرة العربية، حيث اتصل بقبائلها ومجتمعها، من الشمال وصولًا إلى مكة، كما أن الملك عبدالعزيز قد عرض عليه أن يركب معه في موكبه من الرياض إلى مكة، لكنّه أراد أن يركب جمله وقال إنه يريد أن يكتشف الجزيرة العربية أكثر، فيبدو أن هناك دوافع علمية إلى جانب أيضا البواعث الرومانسية، فالغربي دائما ما ينظر إلى الصحراء العربية نظرة يختلط فيها الواقع بالسحر، أليس كذلك؟
** قد يكون هناك بعض الرحالة الذين يمثلون استثناء عما ذكرته، لكن الغالبية العظمى منهم تاريخيًا وآثاريًا ومعلوماتيًا قد جاؤوا لغرض آخر، أما الذين جاؤوا مغرمين بالصحراء فلا نعدهم في معظمهم من الرحالة، وبعضهم يتزوج من البدو ويدخل الإسلام ويسكن وسط المجتمع ويختلط به، مثل محمد أسد، لكن بشكل عام فإن حركة الكشوف الجغرافية كانت مرتبطة دائما بحركة التوسع الاستعماري الغربي، ويمكننا أن نجد الآن أن الكتاب الي أخرجته بريطانيا عن جيشها خلال الحرب العالمية الأولى، نجد أن هناك وصفًا دقيقًا وكاملًا لبعض القرى والمناطق، ومعلومات كثيرة عن أميرها وسكانها ومساجدها وكل شئ.
فوائد ولكن… !
* ألا ترى أن حركة الاستشراق، رغم ارتباطها بـأجهزة الاستخبارات الغربية وبعض الدول الاستعمارية، إلا أنها في نفس الوقت قد خدمت حركة البحث العلمي في الجامعات العربية ومعاهد البحوث؟، ألم يقم المستشرقون بالكشف عن المجتمعات المندثرة في الجزيرة العربية، كما قدموا خدمة جليلة للمخطوطات التي تناثرت على امتداد العواصم الغربية؟
** مما لا شك فيه أنه خدموا كل ذلك، لكن هذه الخدمة كانت أولًا لأنفسهم، ثم استفدنا نحن لاحقًا من هذه الأعمال، فهم لم يقوموا بها من أجلنا، وإذا تحدثنا عن التاريخ القديم.. سنجد ـ على سبيل المثال ـ أن لهم الفضل في اكتشاف النقوش وقراءتها وترجمتها، ولكنهم في نفس الوقت عندما أرادوا أن يضعوا تسلسلًا زمنيًا لتاريخ الجزيرة العربية، ربطوا تاريخها بسيدنا سليمان وبلقيس، لكن الآن الاكتشافات الأثرية الجديدة تكذب كل ذلك، ولم تجد في اليمن أبعد من القرن الثامن قبل الميلاد، في حين أن سيدنا سليمان وبلقيس كانا في القرن العاشر أو الحادي عشر قبل الميلاد.
أيضا عندما يدرسون هذه النقوش المكتشفة، يحاولون ألا يجعلوها عربية، وإنما نقوش لمجموعات بشرية كانت تعيش في جنوب الجزيرة العربية وليس لها صلة باللغة العربية، والآن قد بدأ الإخوة اليمنيون يكتشفون هذه الحقيقة، لذا علينا أن نعيد النظر فيما نأخذه عن الغربيون.
* يشكو الباحثون على امتداد الزمان بأن تاريخ الشعوب يُكتب في إطار ظروف سياسية ما، ألا ترى ذلك صحيحًا؟
** نعم، لاحظنا ذلك كثيرًا أن معظم التاريخ المكتوب هو تاريخ سياسي، والقليل من المؤرخين والباحثين هم من اهتموا بالتاريخ الاجتماعي، فربما رحلة ابن بطوطة ورحلة بن جبير وما كتبه الجاحظ في رسائله المختلفة تعطينا لمحة عن طبيعة حياة المجتمعات، ونحن في مشروعنا عن مثل هذه الأشياء، ولذلك المرجع في كتابة تاريخ الأمة العربية ليس التاريخ السياسي، وإنما التاريخ الحضاري، بحيث يرى القارئ موزاييك لتاريخ العالم العربي منذ فجر الإسلام وحتى وقتنا الحاضر.
عدم موضوعية
* يتهم الباحثون الغربيون الباحثين العرب بأنهم في الغالب ليسوا موضوعيين، وإنما تسوقهم مؤثرات سياسية أو ثقافية أو اجتماعية في صياغة بحوثهم، فما ردك على ذلك؟
** نحن أيضا نتهم الغربيين بنفس الشئ، فهم أيضا عندما يكتبون فإنهم يكتبون بتوجهات مختلفة، وعندما يخرج أيا منهم عن نسق معين يُرمى بأنه ضد السامية أو بغيرها من الاتهامات والانتقادات، فالمؤرخ بشكل عام لا يمكن فصله عن توجهاته الإقليمية أو المحلية، ولكن بقدر الإمكان يجب أن يحاول أن يكون حياديًا، لذا فإننا نود ألا يتم أخذ كلام المستشرقين بدون بحث أو تدقيق.
إعادة اكتشاف جزيرة العرب
* بالعودة إلى الفاو وما تم اكتشافه فيها، هل لهذه الاكتشافات دور في إعادة النظر وقراءة تاريخ الجزيرة العربية؟
** أعتقد أنها بإذن الله سيكون لها دور كبير جدا، فالانطباع الذي أُخِذَ عن الجزيرة العربية عند كتابة تاريخها، تم أخذه على أساس أن الجزيرة العربية كانت عبارة عن بادية وكان هناك فترة جاهلية بكل المفهوم السيء لهذه الفترة التاريخية، ولا شك أن الشعوبية قد لعبت دورًا مهمًا جدا في هذا الوقت، كما أن الأوروبيين عندما كتبوا التاريخ حاولوا قدر الإمكان أن يلقوا بظلال على تاريخ الجزيرة العربية القديم، وعندما تنظر إلى كتاب مثل The Cambridge Ancient History تجد كل المناطق في العالم بتاريخها، إلا الجزيرة العربية، وأنا في تصوري أن هذا النسيان متعمد، وأن السبب هو الإسلام، لأنهم إذا أدخلوا الجزيرة إلى التاريخ، وأظهروا مدى الحضارة وتطور المدن ومعرفة الكتابة، فسوف تختلط الفكرة السائدة لديهم بأن القرآن الكريم مجرد تلخيص مأخوذ من التوراة والإنجيل، وأن النبي محمد ﷺ هو رجل أعرابي ذهب إلى بلاد الشام فتعلم شيئًا وأخذ هذه الأوراق فجاء بالقرآن.
فلذلك فإن وجود حضارة في الجزيرة العربية تدعم أن المستوى الحضاري الذي وصلت إليه الجزيرة قبيل الإسلام، كان حريّا بها أن ينزل فيها هذا القرآن الفصيح، الذي أعجز العرب أن يأتوا بأية من مثله، بالرغم من وجود بيئة ثقافية ومعرفية ناضجة، لكن الغرب بشكل عام لا يريد أن يكشف عن هذه الحقائق ويظهرها إلى العلن.
نصوص ونقوش
* لو حاولنا قراءة النصوص الشعرية الجاهلية، مثل المعلّقات، سنجد أنه كانت تعكس بيئة ثقافية عربية ناضجة، كما أن الشاعر العربي استطاع أن يكون في نهاية سلسلة ثقافية متراكمة من التجارب السابقة، هل هذا صحيحًا؟
** يجب أن نفكر في الرقيب الذي حرمنا من أشياء كثيرة، فعلى سبيل المثال، نجد تاريخ ابن اسحاق الذي كُتِبَ سنة 150 هـ، وكتب كل شئ عما كان في المدينة، ثم جاء ابن هشام وحذف ما أراد أن يحذفه ثم أخرج لنا سيرة ابن هشام الموجودة حاليا، وهي لا تتعدى خمس ما كتبه ابن اسحاق، الذي تم اتهامه بأنه مجنون، أيضا بالنسبة لقضية الشعر.. فالشعر الموجود حاليا ليس هو شعر الجاهلية كله، فقد أخذوا منه ما يتناسب مع التفكير العربي ومع الدعوة الإسلامية، وتركوا ما لا يتناسب، فنحن لا نعرف كيف كان الناس يتعبدون قبل الإسلام، أو كيف كانت أهازيجهم أو أغانيهم، وغيرها من الأشياء الكثيرة التي حُرمنا منها بسبب الرقابة المفروضة، وبالتالي فقد حُرِمنا من رصيد هائل من الثقافة العربية التي كان من الممكن أن تصلنا، ولم يصلنا سوى الفتات.
كل ذلك في تصور الأشخاص الذين كتبوا هذا التاريخ، أنهم بذلك يرفعون من قيمة الإسلام ويضعونه في مرحلة ليست كما يجب أن يكون عليها، ولكن أنا أعتقد بأننا حُرمنا من الكثير والكثير، وللأسف فإن العرب في الجاهلية لم يكتبوا الشعر، حيث استخدموه في التطريب والاحتفال وغيرها.
* ألم تكتشفوا أشعارًا مكتوبة أو مقدمات لهذا الشعر الجاهلي في الفاو خلال بحثكم؟
** لا، لكن وجدنا جملًا فصيحة؛ مثل «لم يبلغ أحد مبلغه»، أو «بنى بيتًا لم يبنِ أحد مثله أبدًا من قبله»، كما نجد أيضا تصليحات للنصوص بالحذف والإضافة، فمجموعة الفاو من أجمل ما يكون لدراسة اللغة العربية الفصيحة، وتطور الآجرومية في الفاو، كما أن الفاو تعدّ مكانًا لصهر اللهجات، وفي النقوش القديمة وجدنا الكثير من الكلمات والجمل وحروف الإشارة والأسماء الموصولة وغيرها.
لهجات عربية
* الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس، عالم اللغويات المصري الشهير، كان على حق حينما ذهب إلى ضرورة دراسة لهجات الجزيرة العربية للتمكن من معرفة نظام الفصاحة، أليس كذلك؟
** نعم، بلا شك، ولكن أقسام تدريس اللغة العربية للأسف لم تهتم الاهتمام الكافي بتجذير اللغة العربية، وتركت ذلك للآخرين، وأنا أرى أن أقسام اللغة العربية يجب أن تعود وتمارس دورها بقوة، وطبعا قد توفى بعض أعلامنا، مثل الدكتور خليل يحيي نامي والدكتور السيد يعقوب بكر، دون أن يتركوا تلاميذاً يسعون إلى إحياء هذه الكتابات ودراستها.
* لكن حضرتك يا دكتور خريج قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود، وقد ابتعثت منه، أليس كذلك؟
** أنا تخرجت من قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة، ثم جئت معيدًا في قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود، ثم جرى ابتعاثي إلى الخارج لنيل الدكتوراه، وعندما عدت مجددًا لم أغيّر تخصصي، لأنه في الكتابات القديمة، والتي لا يعمل بها أحد إلا من لديه تخصص وعلاقة قوية باللغة العربية ذاتها، إلا أنني إلى جانب هذا التخصص دخلت إلى علم الآثار وعشقته، ثم عدت وأنا في ذهني أن أجمع بين الحسنيين.
بين الأدب والآثار
* يحضر في ذهني الآن ما قام به الدكتور ناصرالدين الأسد، من قراءة لبعض الحفريات الأثرية والتي من خلالها توصل إلى مصادر الشعر الجاهلي في دراسته الشهيرة، فلو لم يكن الدكتور الأسد مُلمًا بهذا الأمر، فهل كان باستطاعته أن يصل إلى ما وصل إليه من اكتشافات على هذ الصعيد؟
** أنا أعتقد أن كتاب «مصادر الشعر الجاهلي» الذي ألّفه الدكتور ناصرالدين الأسد، ليس له صلة بالدراسات الأثرية، ربما قد كرر دراسة بعض النقوش التي درسها الدكتور خليل يحيي نامي والدكتور السيد يعقوب بكر، لكن ليس أبعد من ذلك، فهو يعتبر الدكتور ناصرالدين الأسد ممن اهتموا بالعصر الجاهلي بشكل عميق، وأظن أنه قد قرأ بعض النصوص والحفريات المقروءة لكنه لم يعانِ من قراءة النصوص ابتداءً، وأشعر أنه لم يبذل جهداً كبيراً في ذلك، وأنا كنت أتمنى أن يكون الدكتور الأسد هو خليفة الدكتور خليل نامي و الدكتور بكر في هذا المجال، لأن له من خلال خلفيّته العلمية والتاريخية واللغوية ما تمكنه من ذلك.
وهناك الدكتور إحسان عباس، ويعدّ هو الشخص الأقرب إلينا قليلًا في مجال الآثار، وقد أصدر كتابًا عن الأنباط، وأعتقد أنه أفضل ما كُتِبً في هذا المجال بالنسبة للقارئ العربي، صحيح أنه في بعض المرات يذكر حقائق علمية وعندما نبحث عنها لنعرف من أين أتى بها، فلا نجد لها أصلًا، لكنه مع ذلك كتابًا قيّمًا ومهمًا أدخله إلى مجال الآثار بقوة، وقد جمع فيه بين شخصية الباحث التاريخي والباحث الأدبي، وبشكل عام هناك أخرون.. لكن إحسان عباس هو الأفضل والأوضح في هذا الجانب.
بداية الولع بالآثار
* لنعد الآن إلى علاقتك بعلم الآثار، فأنت خريج قسم اللغة العربية، وقد ذهبت أنت والدكتور الحازمي والدكتور الضبيب للدراسة في جامعة القاهرة وبعد ذلك ذهبتم إلى ليدز، ومن هناك حصلت على أطروحة الدكتوراه، فمتى بدأ هذا الولع بعلم الآثار؟
** الحقيقة أن هذا الولع قديم، ربما بدأ بتأثري بـ»عبدالقدوس الأنصاري» والذي تربطني به علاقة قرابة فنحن من عائلة واحدة، وكتابه «آثار المدينة المنورة»، هو أول كتاب كُتِبَ عنها في مجال الآثار، ثم بعد ذلك كنت في رحلة إلى المدينة المنورة، حيث أخذنا أستاذ التاريخ لشرح غزوة أحد على الطبيعة، وذهبنا إلى جبل الرماة، وعندما كنا نعبث كأطفال، وجد أحدنا جزءً من سيف، فتأثرنا كلنا وتفتت هذه القطعة بيننا، هنا لمع في ذهني سؤال؛ لمن يكون هذا السيف؟، ثم ذهبت إلى القاهرة وفي سنة 1956م، ذهبت مع بعض الزملاء إلى الأقصر وأسوان ومناطقهما الأثرية، ولاحقا ذهبت إلى بريطانيا، وكان المشرف عليّ كان له الفضل في أن يستميلني إلى مجال الآثار، لأنه عندما وجدني مجتهدًا في مجال النقوش، أخبرني بأن أذهب إلى شمال بريطانيا وأن أتعلم شيئًا عن التنقيبات الأثرية هناك، فذهبت وكنت أتدرب عمليًا في الصباح وأدرس في المساء، ثم بعد ذلك ذهبت إلى صقلية خلال صيفين متتاليين، وكان هناك موقع فينيقي وعملت هناك مع نفس المشرف، ثم أرسلني إلى القدس عام 1966م، وأمضيت هناك شهرين مع السيدة كاثلين كينيون، أشهر منقبة أثرية في ذلك الوقت، واستفدت كثيرًا من تلك التجارب.
فلسطين بلا آثار يهودية
* بهذه المناسبة؛ ماذا يقول الدكتور عبدالرحمن الأنصاري حول دعاوى إسرائيل بأن هناك وجود لهيكل سليمان في تلك الأراضي؟، وما المكتشفات من وراء تلك الحفريات المستمرة التي تكاد تقضي على المسجد الاقصى، خاصةً وأن بعض المنقبين قالوا أنهم وجودا آثارًا عربية تعود للفترة الأموية والعباسية؟
** كل الطبقات الأثرية الموجودة تبدأ من الفترة المملوكية ثم الأيوبية ثم العباسية ثم الأموية وهكذا..، وصولًا إلى الفترة البيزنطية والرومانية، وليس هناك أيّ شئ يخص اليهود، ولعل هذا هو سبب العداء بين اليهود وبين كاثلين كينيون، لأنها قالتها صراحةً ذات مرة: «لم نجد شيئًا يخص اليهود»، وعلم الآثار الأمريكي بول لاب أيضا أثبت ذلك من خلال الفخار، مؤكدًا أنه لا توجد أي صلة بين هذه المنطقة واليهود، فاليهود لم يبق لهم شئ في القدس، وكل البعثات الاثرية هناك أثبتت ذلك.
بنو إسرائيل كانوا عبارة عن قبائل متبدّية، ولذلك فإن سيدنا سليمان عندما جاء من مصر ودخل تلك المنطقة وكوّن الدولة، استفاد من اللبنانيين والسوريين، وبالتالي ليس لليهود هناك حضارة أو تاريخ ولا آثار باقية، أما منطقة القدس وفلسطين عموما فقد كانت تسكنها قبائل عربية عديدة، منها الكنعانيون. كما أن اليهود عندما كانوا مع سيدنا موسى قالوا له ـ كما ورد في القرآن الكريم: «إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا»، إذن المنطقة كانت عامرة ومتحضرة وفيها أقوام عديدون غير اليهود، ولذلك فإن فترة التيه في الصحراء كانت لإخراج جيل جديد يمكنه أن يدخل فلسطين، أرض الميعاد.
* يحاول الدكتور موسى إسحاق الحسيني، وهو باحث ومؤرخ فلسطيني بارز، إثبات عروبة القدس بأن أنبياء بني إسرائيل لم يتملكوا شيئًا في فلسطين، وإنما كانوا يستأجرون الأراضي والمباني وما إلى ذلك، فما تعليقك على ذلك؟
** هذا صحيح، فسيدنا إبراهيم نفسه عندما جاء في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، اشترى قطعة أرض من العرب اليوبسيين، حيث كانوا يسكنون أرض فلسطين، وهم من أسسوا تلك المنطقة وعاشوا فيها منذ الألف الثالث قبل الميلاد، ولم يكن حينها هناك أيّ أثر لبني إسرائيل في تلك الآونة.
* وماذا عن مسميات المدن؛ على سبيل المثال: أورشليم؟
** أور بمعنى مدينة، وأورا تلك موجودة في بلاد العرب قبل أن تكون أورشليم موجودة، وأورشليم أو أورسليم هي مدينة سالم، أو مدينة السلام، وليس لها أيّ صلة باليهود أو اللغة العبرية على أيّ حال من الاحوال، وحرفا الـ»س» والـ»ش» متبادلان بين العربية والعبرية، فكل ما هو «س» في العربية ينطق «ش» في العبرية وبالعكس.
موضوعية مفقودة
* حركة المؤرخين الجدد في إسرائيل اليوم، هذا الجيل الذي وعى على هذه الكارثة من بني جلدته، حيث أتت الحركة الصهيونية فدمرت الوجود العربي الفلسطيني وأقامت مكانه دولة مصطنعة ومجتمعًا ملفقًا، نريد هنا حديثًا عن هذه المجموعة التي برزت في إسرائيل، ودروها في تسليط الضوء على حقيقة الوضع السياسي والثقافي للوجود العربي الفلسطيني.
** بالنسبة للمؤرخين الإسرائيليين يمكن تصنيفهم في أكثر من مجموعة، فهناك مجموعة لها صلة بالتاريخ القديم، وهؤلاء عادةً ما يظهرون وكأنهم أناس محايديون، ولكنهم في الحقيقة يحاولون احتواء التاريخ القديم بأي صفة من الصفات، ولذلك عندما يتكلمون عادةً ما يحاولون استمالة المؤرخين الآخرين عند الحديث عن علاقة الأنباط ببني إسرائيل، فلا شك أنه خلال الفترة البطلمية حدث نوع من التزاوج بين الأنباط واليهود في هيرود، وهم يحاولون الاستفادة من هذه الصلة منذ الستينات عن طريق إقامة المعارض في أوروبا وغيرها حول فترة الأنباط وإظهار مدى ارتباطهم تاريخيًا بهم، خاصةً وأنهم قد وجدوا بعض المخطوطات في منطقة بئر السبع وغيرها ويحاولون من خلال تفسيرها على هواهم لإثبات أن هناك علاقة تربطهم بالأنباط.
أما المؤرخون المختصون بالفترة الوسطى، فإنهم يحاولون أيضا التركيز على وجود اليهود إبان الدولة الفاطمية أو الدولة الأيوبية وغيرهما، بحيث يبرزون هذا الوجود بكل جوانبه، بالرغم من أن هذا الوجود بجوانبه قد لا يهتم به المؤرخون العرب أو غيرهم، بالنسبة للمؤرخين المحدثين فإن بعضهم يحاول بقدر الإمكان أن يكون متجرداً، بحيث يظهر أن الصهيونية لها أغراض معينة وأنها عنصرية، ولكن هؤلاء ليسوا في السلطة وتأثيرهم محدود للغاية.
* لو حكّمنا المنهج الموضوعي هنا، هل ترى فيما يكتبه هؤلاء مستوى من الموضوعية التي من المفترض أن تكون موجودة لدى المؤرخ؟
** الموضوعية ذات أوجه عديدة، فعندما يكون لديك قضية معينة وتسلط كل البراهين عليها، تشعر أنت كقارئ بأن هذا الأمر ذو موضوعية، وبالتالي فإن هؤلاء يسوقون كل البراهين من أجل إضفاء صبغة الموضوعية على ما يكتبونه، وبشكل عام في التاريخ.. فإن الموضوعية تكون لمن يقرأ، فأنا كقارئ عربي أعرف مداخل الأمور فبالتالي أشعر بأن الموضوعية مفتقدة، لكن بالنسبة لمن لا يعرف هذه الأمور قد يشعر بأن الموضوعية في هذه الكتابات كاملة.