** في نهاية أمسية الزميل أحمد أبودهمان, التي نظمتها السفارة الفرنسية في مكتبة الملك فهد الوطنية .. تساءل القاص محمد علوان, وأحد أبناء قرى الجنوب: لماذا لم “يطرق” أبودهمان, فهو عاشق للغناء, وجنوبي مفتون بأعراس القرية.
كنا نهبط من علياء الأمسية “الدهمانية” بمصعد المكتبة إلى الأرض! .. الجنوبي وعلوان وأنا .. ساعتها انهالت علي الصور من كل صوب, تلك التي قدمها إلينا محمد علوان قبل ربع قرن . بفتنة أسلوبية مدهشة, لا في مجموعته القصصية الممتعة “الخبز والصمت” فحسب, بل بحكاياه المتواترة عن عالم قريته الجنوبية .. حيث الجمال والشعر والرقص والغناء والسحر.. هل لهذا فتن الروائي المصري الكبير يحيى حقي بمجموعة علوان, وهو يقدمها بذلك الاحتفاء الأسطوري, رغم أن علوانا وقتذاك لم يكن قد عرف قيمة إبداعه; وظل بأريحيته القروية غير منخدع بكل ما قيل فيه وعن قصصه, من اعجاب بموهبته القصصية الفذة, حتى يشتم لغته العربية التي أبدعت ذلك الواقع السحري لقرى الجنوب!!
كلا! .. بل راح يواصل كتابة أقاصيصه, ومقالاته الصحفية, حين كان متوهجا , دون أن تكون مقدمة يحيى حقي وهو من هو باعثا لعلوان على الطيران, والانفكاك من أسر الجاذبية الأرضية!!
[[ أما أحمد أبودهمان فقد كان وقتها يكتب قصائده الشعبية, المضمخة بعبق أزهار الجنوب .. قبل أن يذهب إلى باريس, مبتعثا من كلية الآداب بجامعة الملك سعود, وقد تخرج وزميلاه الموهوبان, الناقد الدكتور معجب الزهراني, والشاعر الدكتور أحمد الشويخات, في كلية تربيتها .. ليتخصص في دراسة فقه اللغة في جامعة السربون .. غير أن طبيعة أحمد أبودهمان الشعرية, كأنها لم تكن مستعدة لصرامة المسطرة الأكاديمية, فراح يمخر عباب البحر الباريسي اللجي , شأنه شأن من سبقه من المبتعثين العرب النهضويين, ليجد نفسه أسير صراع القيم والأفكار .. لم لا وهو الجنوبي المنسوج من عالم الفقر والقبيلة والثقافة الشعبية بأساطيرها وشعرها ورقصها وغنائها .. فكيف له أن يصمد في وجه تيارات باريس الفكرية والفنية والشعرية؟!
لكن هل سار أحمد أبودهمان على درب من سبقه, تفاعلا حضاريا عضويا مع عالم فرنسا, كما هو الشأن مع طه حسين الذي خرج من ذلك العالم بمنهجه الأكاديمي الديكارتي, محاولا تطبيقه على النصوص الشعرية القديمة في دراساته المشهودة .. أم هو كالروائيين العرب, الذين اتخذوا من باريس أو من لندن محطة تصادمية مع ثقافاتهم المحلية وتجاربهم الاجتماعية.. هكذا فعل توفيق الحكيم في قصته “عصفور من الشرق” وسهيل ادريس في روايته “الحي اللاتيني” والطيب صالح في روايته “موسم الهجرة إلى الشمال”.
لقد جاء أدب هؤلاء الرواد ثمرة فكرية أو أدبية للتلاقح الحضاري بين ثقافتين .. فهل ما كتبه أحمد أبودهمان في روايته “الحزام” هو ثمرة تلاقح “أناه” الجنوبية السعودية العربية الإسلامية مع “الآخر” الباريسي الفرنسي الفرانكفوني الغربي؟!
[[ هذا هو السؤال .. وهو سؤال مشروع بوصف ما كتبه أبودهمان مشهود له بالتمكن من اللغة الفرنسية من نخبتها الفرنسية .. بما فيهم السفير الفرنسي, الذي اعتبر رواية الحزام إضافة أدبية إلى اللغة الفرنسية .. وقبله شهد أبودهمان حفاوة فرنسية في الصحافة والتلفاز والإذاعة, ما جعله ي “طرق” بأغانيه الجنوبية .. لا أعلم ان أد اها بلغته القديمة .. أم ب”لغته” الجديدة؟!
أنا شخصيا أشك أنه أداها بل “غته” العربية, فما سمعناه عنها بلسانه في أمسيته الحاشدة, كان أشبه بقروي صدمته الحضارة الغربية, وأسرته اللغة الفرنسية, إلى حد التنكر للغة العربية, فهي حسب قوله بالنص .. لغة ضبابية .. ولغة عمياء .. ولغة غير صادقة .. فهو الذي كان يتمتع بوصف الصادق بين أصدقائه السعوديين, اكتشف بعد زواجه بفرنسية, أنه ممتلئ بالكذب, الذي نظفته منه زوجته الفرنسية.. هذه هي سمة الثقافة العربية إذن موصوفة بالكذب, على لسان أحد أبنائها البررة!!
وفي المقابل يصف اللغة الفرنسية وحدها باللغة الصادقة وهي لغة المصطلحات, وكذلك هي اللغة “الحية” أليس هذا ما كان يعمل على تكريسه المستشرقون الفرنسيون في الماضي الاستعماري, ويؤكده اليوم الفرانكفونيون في كل أنحاء العالم, المنضوي تحت لواء التبشير بالثقافة واللغة الفرنسية, وما اللقاءات والمؤتمرات والمشروعات, التي تحييها فرنسا لتمجيد لغتها, ونشرها, في العالم, والعالم النامي على وجه الخصوص, إلا لتأكيد أنها لغة حية .. لغة علمية, لغة مصطلحية, حتى تنقذ انحسار نفوذها القديم مع اللغة الإنجليزية وثقافتها الكولونيالية المدمرة لخصوصيات الشعوب, خاصة في هذه اللحظة (العولمية) من السيطرة على مصير العالم واقتصاده بلغة قطبية أحادية, مستأسدة على ثقافات العالم الحضارية .. وفي مقدمتها اللغة العربية .. اللغة المؤهلة لاقتسام النفوذ المعنوي مع اللغة الإنجليزية, بوصفها لغة القرآن الكريم, الذي يدين بتعاليمه, والنطق بآياته وسوره العربية, مئات الملايين على امتداد الكرة الأرضية.
[[ إذن ما هو مبرر وصف “أبودهمان” اللغة العربية بالضبابية والتخلف والعماء .. هل لأن دار غاليمار.. وهي أبرز دار نشر فرنسية قد قدمت الطبعة الثامنة لروايته, في غضون سنة واحدة؟!
إننا سعداء جدا أن يكون هذا الاهتمام الفرنسي بروايته الجنوبية .. حتى الآن لم يحدد أبودهمان ولا الدار الفرنسية ما هو نوع النص الذي كتبه!! .. وهو أقرب الظن, ضرب من السرد الحكائي, فاض بأحمد وهو يضطر لتقديم نفسه لزوجه وابنته في عالم الاغتراب, فراح يحكي لهما من هو .. ومن أين أتى .. ولأي ثقافة ينتمي .. وكان هذا عملا جميلا , لأنه هو الذي حقق له التماسك النفسي, أمام حالة الافتراس الثقافي الفرنسي, ف ل م يتنكر اليوم للغته العربية؟! هذه التي لولاها .. ولولا عبقريتها وغناها وطاقتها السردية لما تمكن أحمد أبودهمان من كتابة “الحزام” وقد أدهشت عامة الفرنسيين, بأخيلتها وصورها وأمثالها وأغانيها ورقصها وبكائياتها .. لقد كتب أبودهمان ما كتب بالعربية, ثم نقله إلى الفرنسية ..ولو (طرق) أحمد في أمسية الرياض الربيعية, لاكتشف هو ذاته انه لن يقوى على أداء أغانيه المهمشة الباكية, إلا باللغة العربية .. سيراها منسابة بأبطال عمله وحكاياه وأمثلته الشعبية, بأداء جنوبي آسر.. لن يشعر بعدها قط بأنه خلية سوداء!! .. بل انه جنوبي أصيل .. بحزام وخنجروكادي ,استحق اكتناه أسرار قريته من حزام , وتمكن من أداء أغانيه من أبيه, وعرف الشعر بما رضعه من أمه الطيبة المكافحة.
أحمد أبودهمان .. يا صديقي كن عربيا ولا تكن فرانكفونيا ! حتى تكتمل فرحتنا بانجازك الفر