لا تُشْرِق شمسُ الثقافة إلا من خلال الإعلام، فثقافةٌ بلا إعلام هي ثقافة الكهوف الظلمة، والقلاع المنسية في أدغال الغابات وفي متاهات الصحارى. كما لا يكتسب الإعلام قيمته ـ كصانع وَعْي نَوْعيّ ـ إلا من خلال مُتَضَمّناته الثقافية المباشرة وغير المباشرة. وبهذا يتّضح أن للثقافة ـ بكل فروعها، وعلى اختلاف تجلّياتها ـ علاقة جدلية/ تفاعلية واسعة النطاق مع الإعلام. وهي علاقة ليست خافية، ولا هي في سبيل الإنكار من أحد؛ وإن كان من اللازم التأكيد عليها، والتَّبصّر بمستوى عمقها، خاصة في ظِل تَصحّر الإعلام الجماهيري ثقافيا، وعنايته الكاملة ـ أو شبه الكاملة ـ بالترويج للتفاهات وللتافهين؛ زعما منه أن هذا هو المُرْبِح في السوق الإعلامي، أو أن هذا هو منطق الإعلام !
الثقافة والإعلام مجالان مُتَعاضِدان، إذ على الرغم من التَمايز النسبي بين المجالين، وتنافرهما أو تنافسهما أحيانا، إلا أنهما متداخلان ومتفاعلان في مسارات كثيرة، مسارات شائكة متواشجة، يستحيل حصرها أو رسم حدودها على نحو حاسم. والتنافر أو التنافس المذكور ناتج عن كون التوفّر على هذا المسار الثقافي أو ذاك المسار الإعلامي، يُؤدي ـ في الغالب الأعم ـ إلى طغيان مسار على مسار؛ لكونهما يمتلكان من باذخ الإغراء المنتهي بالاستحواذ التام أو شبه التام، ومن اشتراطِ الحيوية الفائقة (المُسْتنفِدةِ للطاقة) ـ كشرط للإبداع فيهما ـ، ما يجعل الجمع بينهما يحتاج لـ”موهبة نادرة” لا تتوفّر إلا لقليل من المبدعين إعلاميا أو ثقافيا؛ كما يحتاج لِـ”قّوة نَفْس/ عزيمة صُلْبة” قادرة على بذل جُهْد استثنائي لتحقق شرط النجاح في هذا المجال.
كثيرون في عالمنا العربي اشتغلوا على الهَمّ الثقافي/ المعرفي، وكرّسوا جُلَّ أوقاتهم لمتابعة حِرَاكه ورصد متغيّراته وللإبداع فيه. كما أن هناك كثيرين أيضا اشتغلوا على المجالات الإعلامية، وتَرَهْبَنوا في محاريبها؛ فأبدعوا؛ على اختلافٍ في مستويات الإبداع. لكن، نادرا ما وُجِد شَخْصٌ جَمَع بينهما (= الثقافة والإعلام) في خَلْطة إبداعٍ تستحق الإشادة والتكريم، كما تستحق البقاء والخلود: الاستعادة المستمرة للمنتج الأصيل.
الأستاذ/ محمد رضا نصرالله من هذا القليل النادر الذي نقل المسرح الثقافي المُتوارِي خَلْف جُدران عزلة المثقفين إلى فضاءِ الإعلام الواسع، نقل الثقافة من إطار الندوات والصالونات والمقاهي النخبوية، نقلها من حوارات زملاء المهنة الثقافية، من الحوارات المختصرة في عدد لا يتجاوز العشرات في أفضل الأحوال، إلى فضاءين واسعين، وحاسمين في تأثيرهما: فضاء أفقي؛ حيث ملايين المشاهدين على امتداد العالم، وفضاء عمودي؛ حيث تثبيت اللحظات الثقافية في صورة مُتَلفزة تمنح الخلود النابض بالحياة لتلك اللحظات؛ بعد أن أصبح إعلام الصورة هو ذاكرة المستقبل. بمعنى أنه لم يُجَمْهِر ويُعَولِم الحراكَ الثقافي على امتداد الجغرافيا فحسب، وإنما أطلقه ماردا يتمدد في التاريخ أيضا؛ ليكتب له خلودا يتجاوز الخلود التقليدي الساكن في بقايا وَشْمِ والأقلام.
باعتباري من مواليد أوائل السبعينيات الميلادية، فإن ما سجّله الأستاذ/ محمد رضا نصرالله من حوارات نادرة مع كبار الأدباء والمثقفين والنقاد أواخر السبعينيات قد فاتني بضرورة الميلاد. لم أعلم به، لا في وقته، ولا فيما بعد؛ إلى وقت قريب: ما قبل أربع أو خمس سنوات. وما سجّله أيضا مع فضائيات التسعينيات قد فاتني لكوني ابن بيئة كانت تُحرّم وتُجرّم اقتناء الإعلام الفضائي. لهذا، لم يكن الأستاذ محمد حاضرا في ذاكرتي الأولى إلا بوصفه كاتبا/ أديبا/ صحفيا.
بداياتي القرائية إبان المراهقة وما بعدها، جعلتني أعرف الأستاذ/ محمد كاتبا صحفيا، مثقفا/ أديبا يخوض المعارك الأدبية باقتدار، فنسمع بها، ونُتَابع بعضها؛ وفق مقتضيات الحال. كانت مقالاته في الرياض تُغْريني وتُطربني، خاصة عندما يتحدث عن الكتب والمكتبات، أو عن الأدباء والمفكرين، وبالأخص؛ عندما يكون عن لقاء أو حوار ثنائي مباشر مع مَن نقرأ لهم ولا نسمع عنهم إلا القليل. وطبعا، كنت أعرف ـ على وجه الإجمال ـ أن له برامج حوارية، لكن ما رأيته منها آنذاك ـ عرضا؛ وهو نادر ـ كان ذا طابع اجتماعي أو سياسي، ولم يكن لي علم بحواراته الأهم بالنسبة لي، أقصد: الحوارات الثقافية/ الفكرية والأدبية مع أبرز وأهم أدباء ومفكري العصر الحديث الذين كانوا على قيد الحياة في الربع الأخير من القرن العشرين، وأوائل القرن الحادي والعشرين.
قبل أربع أو خمس سنوات كنت أبحث عن أمر يتعلق بالمفكر المغربي/ عبد الله العروي، فظهر لي ـ في اليوتيوب ـ مقابلة له مع الأستاذ/ محمد. لم أكن أتوقع وجود مثل هذه المقابلة النادرة؛ لأن العروي نادرا ما يظهر في الإعلام. شاهدتها مباشرة، وبمجرد انتهائي منها، لاحظت أن اليوتيوب ـ كعادته ـ يقترح لي بعض المواد المشابهة/ ذات العلاقة، فإذا منها، مقابلة مع الروائي السوداني/ الطيّب صالح، ومقابلة أخرى مع الروائي المغربي/ محمد شكري، ورابعة مع الناقد المصري/ شكري عياد. آنذاك، شعرت بأنني قد وقعت على كنز لم أحلم به، فلم أكن أتوقع أن هذه المقابلات ستكون متاحة لي في يوم من الأيام، وأن بإمكاني مشاهدتها متى أردت؛ للتأكد وللتثبّت وللتوثيق.
مسؤولية غياب أو تغييب هذه المواد النادرة تقع على الإعلام الفضائي الذي كان يجب أن يبحث عن مثل هذه المواد، ويُعيد بَثهّا باستمرار؛ على فترات متباعدة نسبيا؛ كي لا تُنْسى؛ وكي لا تفوت أولئك الذين لم يسعفهم الحظ، أو لم تسعفهم تواريخ ميلادهم بالاطلاع عليها. فبدل هذه الساعات المتكاثرة من الإعلام الفضائي التهريجي الفارغ من أي محتوى له قيمة، كان من الواجب اقتناص مثل هذه المواد الحوارية التثقيفية التي تربط المشاهدين بأهم ما أنتجه رُوَاد العقل العربي في العصر الحديث.
على أي حال، بدأت كُلّما خَطَر لي اسم مثقف أو مفكر أو أديب؛ أكتب اسمه؛ فأجد ـ في الغالب ـ أن الأستاذ/ محمد بالذات قد حاوره. وبما أن رفع المواد على موقع يوتيوب يجري تباعا، ففي السنة الأخيرة ذُهلت! ليس من عدد المقابلات التي أجراها الأستاذ/ محمد، ولا من تنوعها فحسب، وإنما أيضا من نوعية الأسماء التي استطاع أن يُخَلّد شيئا منها في تاريخ الإعلام المرئي، ولولا مبادرة الأستاذ/ محمد لأفلتت من قبضة الخلود، ولم يَبْقَ منها في الذاكرة البصرية شيء، ولَحُرِمَت الأجيال اللاّحقة من رؤية كثير من الأسماء الثقافية في مشاهد حية، مشاهد تنطق بما لا تستطيع الحروف الصامتة أن تنطق به لمحترفي القراءة متعددة الأبعاد.
أسماء كثيرة، كبيرة، لم أكن أتوقع أن أجد لها حوارا حيًّا مشاهدا في يوم من الأيام، هي اليوم مُتوفّرة على الشبكة العالمية، أشاهدها أينما كنت، ومتى شئت؛ بحركة من أطراف أصابعي. وكل هذا بفضل مبادرات الأستاذ/ محمد نصر الله الإعلامية/ الثقافية ذات الطابع الاستثنائي. فبفضله توفّرت مادة ثقافية/ فكرية جادّة، تزاحم هذا الغثاء الإعلامي الرائج، بل هذا العبث الإعلامي واسع الانتشار.
ومن المهم التنبّه إلى حقيقة أن له ـ وحده ـ الفضل الكامل فيها؛ لأنه هو صانع هذه البرامج الحوارية، وبفضله خرجت إلى الوجود. أقصد أن دوره فيها ليس ثانويا، بل أساسيا. فهذه الحوارات لم ترَ النور لأن برنامجا حواريا تَقرّر إنتاجه عند هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك، ثم بحثوا له عن مُحَاوِر مُناسب. بل العكس هو ما حدث، أي أن مُحاوِرا يمتلك قدرا كبيرا من الثقافة، ومن الشغف المعرفي، ومن مهارة الحوار، أراد ـ هوـ أولا صنع مادة إعلامية ثقافية، ثم وجدت الوسيلةُ الإعلامية أن من السبق الإعلامي أن يخلقوا له برنامجا يناسب قدراته في الثقافة والإعلام. فكان هو صانع البرنامج حقيقة لا مجازا، صانعه حقيقة، وليس إضافة من باب التكريم. فلولاه؛ لم تخرج هذه البرامج الحوارية ـ الثقافية/ الفكرية منها خاصة ـ إلى الوجود أصلا، لم تخرج حتى ولو في صورة هزيلة، إذ هو الذي أخرجها ـ بهذه الأسماء اللامعة ـ ابتداء، وهو الذي ارتقى بها إلى هذا المستوى العالي من الجدل الثقافي انتهاء.
ليس من السهل أبدا أن تظفر بحوار أسماء كبيرة من قامة: عبدالله العروي، وبول فندلي، و الطيب تيزيني، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وحسن حنفي، وزكي نجيب محمود، وفهمي جدعان، وحسن ظاظا، والجواهري، والفيلسوف عبدالرحمن بدوي، والدكتورة بنت الشاطئ، وبلند الحيدري، وغازي القصيبي، وشكري عياد، ونزار قباني، وأدونيس، وفدوى طوقان، ونقولا زيادة، وسميح القاسم وسعيد عقل، ومحمد عابد الجابري، وصموئيل هينغنتون، والدبلوماسي الألماني المسلم/ مراد هوفمان، والمستشرق الفرنسي/ جاك بيرك، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح فضل، وجابر عصفور، ومحمد جابر الأنصاري…إلخ الأسماء المشهورة في عالم الأدب والفكر. أقول: ليس من السهل أن تظفر بحوار أسماء كثيرة من هذا المستوى، ثم ـ وهذا هو المهم ـ ليس من السهل أن تحاورها بمستوى مكانتها الأدبية والمعرفية، وأن تتمكن من استنطاقها بأعمق وأهم ما تتوفر عليه من إبداع.
نعم، ليس من السهل أن تفعل كل هذا. ولكن الأستاذ/ محمد رضا نصرالله فعله بجدارة. حاور هذه الأسماء ـ وغيرها كثير ـ، حاورهم باقتدار معرفي ومهني لافت. يعرف الجميع أن الأستاذ/ محمد مثقف واسع الاطلاع من خلال مقالاته المشهورة، ومن خلال إشرافه على تحرير كثير من الصفحات الثقافية. ولكن التجلّي الثقافي في الكتب والأبحاث والمقالات عند كبار الكُتّاب يبقى خاضعا ـ في جوانب كثيرة منه ـ لإعداد واستعداد لا يمكن للقارئ قياس مداه. أما في الحوار، وخاصة طريقة الأستاذ/ محمد، حيث الحوار تتناسل منه الأسئلة تباعا، فهنا، تبدو ثقافة المُحاوِر على المحك. لا يستطيع المُحاوِر أن يُمْعِن كثيرا في عمق أطروحات المفكر/ الأديب المحاوَر؛ ما لم يكن مطلعا بعمق على إنتاجه؛ وما لم يكن أيضا مطلعا على المنتج الثقافي/ الأدبي في السياق الثقافي الذي يتموضع فيه هذا الإنتاج، ويأخذ منه مشروعيته. أي لا بد للمُحاوِر من أن يكون على مستوى ضيفه في معرفة إنتاج الضيف، وأيضا في معرفة المجال الثقافي للضيف، ما يعني معرفة ما كتبه السابقون عليه، بالإضافة إلى ما كتبه مُجَايِلوه، فضلا، عما كتبه ناقدوه؛ إنْ ثَناءً وتثمينًا، أو قَدْحا وتبخيسًا.
لقد كان مُلْفِتا أن شابا لم يبلغ الثلاثين من عمره يُحَاوِر كبارَ مفكري العرب باقتدار. في بعض الحوارات كنت ـ لعمق أسئلة المُحاوِر ـ أشك أنها سُجّلت نهاية السبعينيات الميلادية (أي عندما كان المحاور لم يبلغ الثلاثين)، وأتوقع أنها أوائل التسعينيات (أي عندما كان المحاور قد تجاوز الأربعين)، فتكون دهشتي أنها من إنتاج السبعينيات! بل لقد بدا لي الأستاذ محمد متفوقا ـ في مستوى سعة الاطلاع الثقافي ـ على بعض مشاهير ضيوفه. على الأقل، هذا ما شعرت به في حواره مع بعضهم، مثل حواره مع الأستاذ/ أنيس منصور، إذ بدا الأستاذ محمد ـ وعلى نحو واضح ـ أكثر اطلاعا ومتابعة من ضيفه الشهير؛ حتى في صلب مجال اهتمام الضيف القرائي والكتابي.
على أي حال، وجود مثقف إعلامي بمستوى الأستاذ محمد نادر. وأنا شخصيا لا أعلم أن مثقفا/ إعلاميا على امتداد العالم العربي قد أنجز مثل هذه الحوارات؛ بهذا العدد؛ وبمثل هذا المستوى. وما أنجزه الأستاذ محمد هنا شيء استثنائي، لا يستحق عليه التكريم الشخصي فحسب، بل يستحق أن يحظى هذا الإنتاج الضخم (أكثر من 1000 ساعة حوارية) بالتكريم اللائق به. وتكريم هذا الإنتاج لا يكون إلا بإعادة بَثهّ بصورة دورية/ متكررة وعلى أكثر من وسيلة إعلامية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لا بد من الاشتغال عليه؛ لإعادة إنتاجه؛ وِفْقَ متطلبات كثير من وسائط المعرفة المُتجدّدة، فضلا عن ضرورة إخراجه منشورا في سلسلة أعمال مطبوعة تُثْرِي الساحة الثقافية العربية. لا يجوز بحال أن يترك هذا الكنز الثقافي النادر للنسيان، بل لا بد من التذكير به على الدوام.