حين سقط “كتاب الشخصية المحمدية” في يدي، كنت قد انتهيت صدفة من استعادة قراءة كتابين عن النبي محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، كان الباحث الموسوعي القبطي الدكتور نظمي لوقا، قد ألفهما، في نهاية الخمسينيات، وسط زوبعة من حماس المسلمين المفرط، وغضب الأقباط المفرط.. تحلقت حول رجل انتصر للحق.. جاعلاً مقولة أرسطو الشهيرة “أفلاطون حبيب إلى نفسي بيد أن الحقيقة أحب إلى نفسي من أفلاطون” نصب عينيه.
كان هذا المسيحي المنصف في كتابيه “محمد الرسالة والرسول” و”وامحمداه” يقدم صورة المفكر الموضوعي في دراسة شخصية النبي محمد بعيداً عن الإسرائيليات، التي تغلغلت إلى كتب السيرة، وجاء المستشرقون يوظفونها في صياغة صورة نمطية رسمت نبي المسلمين، في هيئة الفاتح بالسيف، والرجل الشبقي المزواج، والمصاب بنوبات عصبية، هي التي جعلته يتخيل اسماء ملائكة وردت في التوراة والإنجيل.. فإذا برئيه الهذياني لها، توحي إليه آياً من قرآنه!! من أجل إقامة ملك هاشمي، حاول به توحيد كلمة العرب ضد الفرس والروم!!
@@ هذه الضلالات التي نسجها مستشرقون غربيون عن النبي محمد، هي قوام كتاب “الشخصية المحمدية” الذي صدر مؤخراً سنة 2002عن دار الجمل بألمانيا.. فماذا عن الكتاب ومن هو مؤلفه؟!
يذكر الكاتب العراقي المخضرم محمود العبطة في كتابه الصادر سنة 1992ببغداد عن “معروف الرصافي.. حياته وآثاره ومواقفه”.. ان هذا الكتاب هو أهم ما كتبه الشاعر العراقي الشهير معروف الرصافي، سواء المخطوط منها أو المطبوع، حيث قضى في تأليفه سنوات طويلة، اعتمد فيها على النصوص التاريخية.. وكتب السيرة عامة.. وكتاب السيرة الحلبية بوجه خاص.. ويقع في كراسات كتبها بخطه، وأودعها لدى صديقه المرحوم محمود السنوي وعليها إجازة بخط الرصافي نفسه موجودة نسخة منه في مكتبة المجمع العلمي العراقي ببغداد، حيث تعاور شداة الأدب والبحث على نسخه بإذن المؤلف، الذي كان يعير كتبه المخطوطة إلى أصدقائه، ممن كانوا يستنسخونها.. ومنها هذا الكتاب، الذي اجتذب شباب الأدب العراقي في الأربعينيات!
..في ذلك الوقت وقبله، رأينا التيار الليبرالي العربي – في مصر على وجه الخصوص – يعود بعد افتتان بالفكر الغربي، واغتراب عن دنيا الثقافة العربية، إلى رموزها التاريخية والإبداعية.. فكان الاهتمام منصباً على دراسة شخصية النبي محمد بأقلام طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل.. وذلك في توجه لافت للرد على تخرصات المستشرقين، ومفتريات الكتّاب الغربيين.
@@ أما معروف الرصافي المولود في بيئة إسلامية محافظة، من أب تركي وأم عربية.. والمتتلمذ على أئمة بغداد من آل الألوسي وغيرهم، فقد وجد في النبي محمد، شخصاً طموحاً لتخليد نفسه معنوياً! بعد ما أراد الملك والسلطان لقومه قريش، خصوصاً لذوي قرابته الأدنين منهم!! حيث “انتقضت دعوته إلى عبادة الله وحده لا شريك له بالمودة التي سألها لذوي قرابته، في الآية 23من سورة الشورى {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى}” ! راسماً للنبي محمد صورة المتعصب لقومه وأبناء قبيلته وآله.
وفي موقع آخر من الكتاب، يرسم حالة الوحي النبوي، على شاكلة نوبات عصبية يتعرض لها محمد !! وهو في مجمل كتابه يورد اسم نبي المسلمين، وخاتم المرسلين.. هكذا مجرداً.. بل انه في مواضع أخرى لا يتأدب معه عليه الصلاة والسلام.. خاصة حين يقف على موضوع زواجاته، فيرسل كلامه – كما يفعل أكثر المستشرقين تعصباً – على عواهن القول بأن هذا المخلوق على الخلق العظيم، والذي أخضع أكبر قوتين عالميتين لدعوته الإسلامية الإنسانية، المتمحورة حول العدل الإلهي، والعدالة الاجتماعية.. لم يكن همه إلا مضاجعة النساء إرضاء لغرائزه!!
@@ هذه المفتريات وغيرها كثير مما ورد في كتاب معروف الرصافي.. كان الدكتور نظمي لوقا.. الباحث الموسوعي القبطي، يفندها واحدة واحدة، في كتابه..”وامحمداه تمحيص وإنصاف” راداً مثل هذه التهم الرخيصة، التي تناولتها أقلام أعتى المستشرقين ضد النبي محمد.. فعل ذلك انطلاقاً من إعجابه بشخصية هذا النبي العظيم، الذي لم يطلع امرؤ منصف على سيرته العطرة، إلا وخرّ لها تعظيماً وإعجاباً، بمن جمع صفات الإنسان الكامل. والقدوة المثلى.. حتى وجدنا مستشرقين آخرين، ينصفون شخصية النبي محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، لأنهم تناولوا هذه الشخصية، من واقع الثقافة العربية والإسلامية، دون إسقاط مفاهيم معادية لها بشكل مسبق، إما بسبب التعصب الديني، أو الجهل التاريخي.
@@ العجيب في أمر معروف الرصافي مع شخصية النبي محمد، أنه يتظاهر بالثناء على عبقريته، وعظمته، لا كنبي، وإنما كإنسان!! وهو يفعل ذلك ليطبق منهجاً تاريخياً جاهز العدة بالهجوم المقذع على النبي!!
لهذا فإنه لم يجرؤ على طبع الكتاب في حياته، موصياً بطبعه بعد مماته – يا للشجاعة! – بعد ما أصبح لا يقيم للتاريخ وزناً ولايحسب له حساباً، لأنه رآه – كما قال في مقدمة الكتاب – بيتاً للكذب ومناخاً للضلال.. بهذه العقلية الانفعالية غير الممحصة، ألف كتابه والذي يربو على السبعمائة صفحة، ولأنه لم يلتزم منهجاً علمياً رغم ادعائه له! فقد سقط في العديد من التناقضات الصارخة.. فكيف به يجمع نقيضين في وقت واحد.. أي يقول بنبوة محمد.. ويعني هنا دوره كمصلح اجتماعي وقائد سياسي.. وفي ذات الوقت يعتبر القرآن الكريم من إنشائه يتلاعب بالوحي حسب اهوائه وغرائزه ! واصفاً رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدهاء البدوي، حين لم يجعل القرآن “شعراً يروى وينشر بل جعله قراناً يقرأ ويحفظ، وسواء أكان محمد يحسن قرض الشعر أم لا يحسنه، يبعد كل البعد عن دهائه وذكائه أن يجعل الكلام في الدعوة شعراً منظوماً لأنه يعلم انه لو جعله شعراً منظوماً لما كان فيه إلاكأحد الشعراء (الكثر) .. ولما كان له من التأثير في نفوس القوم أكثر من أشعار الشعراء المتألهين الذين رآهم وسمع شعرهم كزيد بن عمرو بن نفيل وأمية بن أبي الصلت” صفحة
140.بهذا الاستنتاج الساذج والافتراء الصاخب، يزعم انه قد دحض فكرة النبوة!! تعالى الله عما يقول هذا الشاعر، الركيك الموهبة والضعيف الإيمان، علواً كبيراً.