محمد رضا نصر الله.. الأديب.. المفكر.. الإعلامي

حينما يتعرّف المرء على أصدقاء ومعارف جدد لأول مرة فإنه يكون أمام أحد احتمالين: إما أن تقتصر الصداقة والمعرفة الجديدة على حدود المناسبات الرسمية، ولا تتجاوز أو تتخطى مجالات اللقاءات العابرة والمعرفة السطحية الباهتة، وإما أن تبدأ التفاعلات (الكيميائية) بين الجانبين عملها على الفور، فتقوم بدورها في توثيق الصلة وتعميق المعرفة بينهما، خاصة إذا كانت هناك قواسم أو اهتمامات مشتركة تجمع بين الاثنين وتسهم بالتالي في توطيد علاقتهما وتعميقها وترسيخ جذورها، وهذا ما حدث حينما تعرّفت لأول مرة ومنذ أمد غير قريب بالأخ الفاضل والصديق العزيز الأستاذ محمد رضا نصر الله.

ما جذبني إلى شخصية أبي فراس منذ البداية هو ما يتميّز به من صفاء في النفس، ورقّة في المشاعر، ونُبل في المقاصد، فمنذ أن عَرَفْتُهُ خَبَرْتُه سمحًا، متسامحًا، يترفّع عن ساقط القول والفعل، ويتجنّب الخوض في أعراض الناس، ومنذ أن عَرَفْتُهُ وجدتُه مثقّفًا، واعيًا صبورًا، ذا تفكير عقلاني، وطبيعة هادئة، قوّي الحجة، سديد الرأي، واضح الرؤية، يحمل في داخله قلبًا ينبض بالحب والتسامح، وينبذ التعصّب والغلو، ويرفض الصراعات والمنازعات، دون التنازل عمّا يعتقده يصبّ في الصالح العام.

ثم بَدَأْتُ أتابعُ مسيرتَه عن كثب، فلاحظتُ ميلَه الدائم للعمل في صمت، لا يذكر نفسَه إذا ذكر الناسُ أنفسهم، ولا يتطلع إلى شيء بقدر تطلّعه إلى المصلحة العامة، ثم علمتُ من سيرته أن طريقه نحو الشهرة والنجومية لم يكن ممهدًا مفروشًا بالورود والرياحين، ولا خاليًا من العثرات والعقبات والكبوات، ولكنه تمكّن بمخزونه الثري من الصبر والإرادة والعزيمة من تجاوز كل الصعاب، وتخطّى جميع العقبات، إلى أن غدا من قامات الفكر والثقافة في المملكة، ومن جهابذة الإعلام المكتوب والمرئي، ومن الذين حفروا في الصخر حتى أصبح شخصية مرموقة يشار إليها بالبنان في وطنه وفي خارج وطنه.

أذكر منذ عدة أعوام خلت، وفي إحدى اللقاءات الحميمية مع نفر قليل من الأصدقاء والأحباب، أن طرأ ذكر أبي فراس، فاختلفت الآراء حوله، فمنهم من اعتبره صحافياً من الدرجة الأولى، ومنهم من عدَّه شخصية تلفازية وإعلامية متميّزة، ومنهم من صنَّفه في قامة المفكرين والمثقفين المبدعين، وأذكر أنني قلت حين جاء دوري: إنني أَعُدُّه مزيجًا من كل ذلك.. وأحسب أنني كنت محقًّا وصائبًا فيما قلت.

فبدايته الفعلية -كما هو معروف- كانت في ميدان الصحافة، حيث عمل في جريدة (اليوم)، ثم في مجلة (اليمامة)، ثم أصبح في عام 1984م مشرفًا ثقافيًّا في جريدة (الرياض)، كما عُيِّنَ في عام 1982م مديرًا لتحرير (الرياض الأسبوعي)، بالإضافة إلى أنه كان يحتل زاوية مشوّقة ومميزة أطلق عليها مسمّى (أصوات) بدأها في جريدة (الرياض) في عام 1978م، ونالت من الشهرة ما نالته، وحقّقت من الصيت والانتشار ما حقّقته، وبالمناسبة فلقد كنت واحدًا من المتابعين الشغوفين لتلك الزاوية أو العمود الصحفي، وكثيرًا ما احتفظت بقصاصات من بعضها لفرط إعجابي بما كانت تحتوي من عمق في الفكر، ووضوح في الرؤية، وسلاسة في العرض والتصوير.

ثم كان أن اقتحم الأخ محمد رضا نصر اللَّه عالم التلفاز، واستطاع من خلاله أن يحقق لبرامجه ولحواراته المتلفزة التي كان يقدمها صيتًا وشهرةً طبقت الآفاق، حيث تمكَّن بِجَلَدِه ومثابرته وصبره ودأبه على تسجيل ما يقارب الألف ساعة تلفازية، استضاف فيها نخبةً من ألمع المثقفين والمفكرين العرب والأجانب على مدى سنوات طويلة، واستقطب ثلّةً من رموز الفكر والأدب العربي إلى برامجه الحوارية التي حقّقت نجاحًا مشهودًا، ولعل من أشهرها: (الكلمة تدق ساعة) و(وجهًا لوجه) و(حدث وحوار) و(مواجهة مع العصر) و(هذا هو)، وكان من أبرز من استضافهم في برامجه تلك (مع حفظ الألقاب): حمد الجاسر، وغازي القصيبي، ومحمد حسن عواد، وعزيز ضياء، وأحمد السباعي، وتوفيق الحكيم، وزكي نجيب محمود، وأحمد بهاء الدين، ويوسف إدريس، وأدونيس، وبلند الحيدري، ومحمد بن عيسى، والشاذلي القليبي، وحنان عشراوي، وصموئيل هانتنجتون، وپول فندلي، ومراد هوفمان، وغيرهم كثيرون ممّن يصعب عدُّهم أو حصرهم.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فلقد استضافني الأخ محمد رضا نصر الله مرة من المرات في إحدى برامجه الحوارية، وأبلغني مسبقًا بالمحاور التي سوف يرتكز عليها اللقاء، وكانت حول موضوع لا يتصل بشكل مباشر بالمجال السياسي الذي كنت أعمل فيه، واتساقًا مع حسه السياسي المرهف، وحرصه على إعطاء برامجه طابع التفاعل المباشر مع الأحداث، فإنه فاجأني في افتتاح اللقاء -وكان على الهواء مباشرة- بالسؤال عن موقف المملكة تجاه حدث سياسي كان موضع الاهتمام ومثار التعليقات والتحليلات في ذلك اليوم، وما كان مني بطبيعة الحال سوى الاستجابة لطلبه والإدلاء بتصريح حول ذلك الحدث.

كنت حريصًا أشد الحرص على متابعة برامجه الحوارية المشار إليها، وإن كنت لا أدّعي أنني شاهدتها كلها، بسبب طبيعة عملي التي كانت تتطلب السفر إلى خارج المملكة في كثير من الأحيان، أو تستدعي حضور اجتماعات في أوقات بث تلك البرامج، ولكن ممّا كان يشدّني لمشاهدتها ومتابعتها هو أن شأن مقدّمها لم يكن هو شأن بقية المحاورين الآخرين في البرامج المشابهة، فلقد كانت له شخصيته المميّزة، وكنت لا أملك نفسي وأنا أشاهد بعض تلك المقابلات من الشعور بأن أبا فراس هو الضيف وأن ضيفه هو المحاور، فلقد كان واضحًا حرصه على استغلال مطالعاته المكثفة، وقراءاته المعمّقة لمؤلفات ضيوفه وطروحاتهم الفكرية، والاستفادة منها في مجادلتهم في آرائهم، ومناقشتهم في أفكارهم، ومحاورتهم في نظرياتهم، ونقده لها بموضوعية ومهنية وبراعة لا نظير لها.

وإن أنسَ فلا أنسى الإشارة إلى أن مسيرة الأخ محمد رضا نصر اللَّه المظفّرة تكلّلت بنقلة نوعية في حياته العملية تمثّلت في اختياره عضوًا بمجلس الشورى لدورات ثلاث، رأس في إحداها لجنة الثقافة والإعلام بالمجلس، وكان لا بد لشخصيته المميّزة أن تأبى أن يقف موقف المتفرّج في خلال عضويته الطويلة في المجلس، حيث بادر إلى تبنّي عدة اقتراحات وتوصيات جريئة تهدف إلى تطوير الواقع السعودي اجتماعيًّا وثقافيًّا وإداريًّا.

ختامًا، لا يسعني في هذه العجالة سوى أن أتمنّى لأخي العزيز أبي فراس طيلة العمر ودوام الصحة والعافية، وباعتبار أنه لم يبلغ بعدُ من العمر أرذَلَه، وربما لا يكون الشَّيْبُ قد غزا مِفْرَقَه، فإنني على ثقة تامة بأن «ماكينته» الفكرية لا تزال تدور، وقلمه السيَّال لا يزال قادرًا على العطاء والإبداع، وقدراته الحوارية لا تزال قوية وفاعلة وحيوية، فلذلك كله قد لا يكون كثيرًا أن أدعوه إلى العودة إلى «الميدان» والركض مرة أخرى في عالم الإعلام، واتحافنا بمقالات صحفية وبرامج حوارية جديدة تتفق مع معطيات ومقتضيات العصر الراهن، وتساهم في فهم واستيعاب والتكيّف مع التطورات الاجتماعية والفكرية والثقافية الجديدة التي بدأت تفرض وجودها على بلادنا وعلى المعمورة بأسرها. وهو قادر -بمشيئة الله- على ذلك.

أحدث التعليقات

الأرشيف

Newsletter
Ads
Comments
All comments.
Comments