بين الترييف والتمدين!

امتازت الإدارة الثقافية في السياسة المصرية، بإسنادها إلى شخصيات ثقافية بارزة في فعلها الاجتماعي، فقبل ثورة 23يوليو سنة 1952، كان العميد الدكتور طه حسين يتبوأ وزارة المعارف، التي قدم إليها على جناح حزب الوفد، حاملاً بين جوانحه هموم شعبه المصري، ومعاناة طبقته الريفية الفقيرة، وكان ذلك قبل إنشاء وزارة للثقافة، التي تسلمها عشية الثورة الأستاذ فتحي رضوان.

إلا أن طه حسين لم يسقط عقده الاجتماعية على المدينة التي تنقل في تعليمه، بين جامعها الأزهر، وجامعتها الأهلية.. وأغلب الظن أن سفره إلى باريس، وتشربه الثقافة الغربية في مظانها اليونانية والرومانية القديمة، ومن ثم زواجه بفرنسية، كان ساعده على تجاوز العقد، التي قيدت مثقفي الريف المتسيسين، في العراق وسوريا ومصر الناصرية.. حيث حاول هؤلاء تحطيم مؤسسات المجتمع والاقتصاد والثقافة التي ورثوها حتى وجدنا بائع ثلج يحتل مقعد وزير الثقافة في بغداد!!

** ولم يقتصر الأمر على “ترييف” الخطاب الثقافي في عراق الانقلابات العسكرية، وإنما سعت التجربة الناصرية نحو إزاحة “مظاهر” المجتمع المدني، التي نمت في النصف الأول من القرن العشرين، على خلفية انفتاح تجربة محمد علي على الغرب، وإعادة بناء المجتمع المصري على أسس جديدة من الحداثة المدنية.. نعم سعت التجربة الناصرية إلى ذلك، فألغت صحف الرأي، وأحزاب السياسة، ونقابات المجتمع، وحين أعادت بعض هذه “المظاهر” استبدلت بعناصرها القديمة من الملاك والرموز البرجوازية، عناصر أخرى آتية من الريف!!

صحيح أن التجربة الناصرية، وجدت نفسها تنساق بدفع آمالها، السياسية والاقتصادية والثقافية، إلى الطبقة الوسطى، التي وجدت في الرئيس جمال عبدالناصر، رمزاً مصرياً عربياً يعبر عن تطلعاتها الوطنية، تخلصاً من الثقافة التغريبية، التي تسربت إلى المجتمع المصري، مع الاستعمار البريطاني، في طبقته العليا بالقاهرة والاسكندرية إلا أن الطبقة الوسطى، لم تعرف هامشاً تعبيرياً يحتوي حراكها الاجتماعي، ولو لم يقم نجيب محفوظ بذكاء سياسي ودأب فني، على تسجيل تفصيلات هذا الحراك، في ثلاثيته الشهيرة، لكنا بالكاد نتعرف إلى صورة الطبقة الوسطى على حقيقتها.. إذ كاد تحول المجتمع المصري إلى مجتمع عسكري، حسب تعبير المفكر المصري “أنور عبدالملك” أن يطمس ملامح هذه الطبقة، بتغييب خطابها الثقافي تحت شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”!!

** إلا أن مصر مجتمع متحرك، ومواطنوها يمتلكون خصائص نهرهم النيلي الخالد، حيث يكتم غيظه لفترة تطول أو تقصر..ليفيض بطميه المثمر على ضفتي النهر..

وهذا ما حصل في المجتمع الثقافي، الذي لم يتأثر بالثقافة العسكرية.. ومن المفارقات المصرية العجيبة، أن أحد عناصر تنظيم الضباط الأحرار، قد نصب وزيراً للثقافة المصرية، فإذا به ـ أعني ثروت عكاشة ـ يبعث روحاً جديدة على خشبة المسرح، بعد ما قام سلفه فتحي رضوان بإحياء الفنون الشعبية، ولم يقصر عكاشة دوره على النشاط المسرحي والسينمائي، وإنما اهتم بالآثار المصرية، مع محاولة إعطاء دفعة تعبيرية، رغم هيمنة المؤسسة الأمنية وقتذاك على أنفاس الأدباء، والمثقفين من كافة ألوان الطيف الأيدلوجي.

لهذا يذكر المثقفون والأدباء المصريون على مختلف مشاربهم، سنوات الستينات “العكاشية” بحنين نوستالجي، حتى أن الهيئة العامة للكتاب تقوم في الوقت الراهن، بإعادة إنتاج مطبوعات تلك السنوات، بوصفها أزهى فترة ثقافية مرت على مصر بعد ثورة 23يوليو، هذه التي أقصت طه حسين، ووضعت اسمه في ترويسة جريدة الجمهورية مع أسماء لا ترتقي إلى مصاف العميد، بحجة ليبراليته!! ناسين متناسين أن طه حسين، قد ولد وحفظ القرآن الكريم، في الريف المصري قبل قدومه إلى القاهرة وسفره إلى باريس !.

أحدث التعليقات

الأرشيف

Newsletter
Ads
Comments
All comments.
Comments