مؤتمر الحداثة المتطـــرفـــة!

في مساء أمس الأول انتهت أعمال مؤتمر المثقفين العرب، المنعقد في بيروت على مدى يومين كاملين، من تقديم ورقات عمل ونقاش، والذي تبنته “المؤسسة العربية للتحديث الفكري” حيث أوكلت رئاسته إلى الباحث المصري د.نصر حامد أبوزيد، وأمانته العامة للباحث السوري الأستاذ جورج طرابيشي.. بينما رأس أعمال المؤتمر الأول الباحث الجزائري الدكتور محمد أركون.

.. حدث ذلك في واحد من أعرق الفنادق اللبنانية “فندق بريستول، ذي الخمسة نجوم، في ضيافة باذخة، ربما ارتأى ممول المؤسسة الوحيد رجل الأعمال الليبي محمد عبدالمطلب الهوني.. أن “ينغنغ” المثقفين العرب المطبوعين على الشكوى والتذمر في كل الأحوال، وعلى مختلف المستويات!!

وهي بادرة حضارية إذا ثبت أنه لا تأثير سياسياً عليها من هذه الجهة أو تلك!!.. حين يتبنى رجل أعمال عربي من أبناء “البرجوازية المنتجة لا الطفيلية” إنشاء هذه المؤسسة، ويتعهدها وحده، ويحملها على كتفيه! مما يستدعي تمويلاً ضخماً إذا استمر انعقاد مؤتمراتها القادمة بهذا المستوى الباذخ!

وبما أن الأمر على هذا النحو، فلا بد أن ثمة استراتيجية، ستعمل في ضوئها هذه المؤسسة، بشكل يتجاوز عقد المؤتمرات وترتيب اللقاءات بين المفكرين العرب.. إلى حيث تتبنى قيم الحداثة في المجتمعات العربية، تبنياً ينهض بها من رقدتها الحضارية الطويلة.

فهل المفكرون العرب وحدهم قادرون على هذا الأمر، الذي نأى به من كان قبلهم، وانطلق في مشروعاته النهضوية بجرعات من الشجاعة الفكرية، لا يتحلى بها كثير من أحفادهم؟!

رئيس المؤتمر الدكتور نصر حامد أبوزيد احتاط لما يمكن أن تحيط هذه المبادرة من شبهة أجنبية، فراح يحذر من ربطها بجملة من المشروعات الإصلاحية التي هبت على المنطقة مؤخراً من الغرب الأمريكي والأوروبي… لذلك تم اقتراح رسالة إلى الحكام العرب في قمتهم المقبلة حول المأساة الفلسطينية، طالبين الالتفات نحو مسؤوليتهم التاريخية تجاهها، ومناشدينهم الالتزام بقراراتهم المالية لتمويل الاحتياجات المعيشية الملحة لمواطني الأرض المحتلة… إلا أن المؤتمر لم تصدر منه رسالة مماثلة إلى الإدارة الأمريكية التي يعيث جنودها فساداً في الأرض العراقية، وما أعلن مؤخراً عن تورط بعضهم في أفعال شائنة ضد السجناء العراقيين، أجبر بوش الابن على إدانة ما بدر من جنوده المنحلين.

ليس هذا وحده مما يؤخذ على هذا المؤتمر الحداثي..

بل إن مداولات كثير من أعضائه في جلساته، عبرت عن اغتراب المفكرين عما يجري في المجتمعات العربية من حراكات حديثة، وتفاعلات ثقافية، كنت أتوقع أنها سوف تسحبهم من صوامعهم الورقية وأبراجهم العاجية، ودورانهم المغلق حول استهلاك النظريات الناجزة، واستعارة التصورات النظرية المجردة، من هذا الاتجاه أو ذاك في سوق الأفكار الغربية.. إلى حيث يتفاعلون مع واقع التغيير الاجتماعي والثقافي الحاد، في العالم العربي، دون أن يوجد أمام معطياته الإشكالية مفكرون حقيقيون فاعلون، يباشرون قضاياه بمنهج ميداني؛ يساعد على صياغة نظريات واقعية عن المجتمعات العربية الجديدة، لا إقحام نظريات تجريدية مستعارة، من هذه المدرسة الأمريكية أو تلك البريطانية أو الفرنسية!.

.. لقد كان أمراً صارخاً أن يتجاوز مفكرو الحداثة ثوابت التفكير في هذه المجتمعات، المتصلة بالمكوّنين الأساسيين لعقلها التاريخي والمعاصر.. أعني الدين والقومية.. بحجة ضرورة إعلان القطيعة معهما على الطريقة النيتشوية، كما ذهب الدكتور عزيز العظمة؛ حتى نتشابه مع عالم الغرب اليوم، بكل ما فيه من ثورات معرفية، وظواهر إلحادية، وتفسخ في نسيجه الاجتماعي، دون تمييز!!

لا يعني هذا الدعوة إلى الانكفاء على الذات.. فإن أية أمة تميل إلى هذا تصبح نسياً منسياً، بعزل ذاتها عن التفاعل الحضاري الخلاق مع تجارب البشر، وإبداعات الإنسانية، في أي مكان، فالحكمة.. أي التوصل إلى المعرفة السوية النافعة هي ضالة المؤمن أنَّى وجدها.. حسب الحديث الشريف.

إن تراكم المعرفة هو خيار المجتمعات التي تتطلع نحو النهوض الحضاري.. فهذه هي اليابان لم تعلن قطيعتها مع الإنساني من قيمها الاجتماعية.. حين نقلت أخلاق الأسرة الممتدة في زراعة الرز.. إلى روح الفريق الواحد في صناعة سيارات ليكزس!!

وهو ذات المنطق الذي انطلقت منه أوروبا القروسطية – نموذج التحديثيين العرب – نحو نهضتها المعاصرة، بعد اتصالها بالإبداع الفكري العربي الإسلامي عبر مدرسة الأندلس، حتى عُد العلامة الفقيه ابن رشد مؤسس فكر التنوير الأوروبي، بعد ما نقل فلاسفة أوروبا في عصره وبعده، جهوده في ترجمة الخطاب الأرسطي، ومداولاته الفلسفية وشروحاته المعتبرة، إلى لغاتهم المختلفة.

لا أعلم بعد هذا لماذا هذا الضيق الطفولي بتاريخ الأفكار، والتوجه نحو حرق المراحل، بأسلوب التماهي مع الغرب في فضائله ورذائله؛ والتمعُّر في وجه الدين.. وكأن الدين الإسلامي .. هو ما نجده اليوم في سلوكيات الإرهابيين، وأتباع بن لادن.. هذه وغيرها من التصورات الشعبية المتخلفة عن الدين الإسلامي ليست هي دين الفقهاء المتميزين باجتهاداتهم التأويلية، التي زاوجت بين ثوابت النص، وفقة النوازل، ومتغيرات المجتمع.. وليست دين الفلاسفة العظام أمثال ابن سينا، وابن رشد، والعلماء الكبار أمثال الخوارزمي وجابر بن حيان والحسن بن الهيثم وغيرهم من علماء وفلاسفة ومفكرين كبار، لا يزال الغرب يحتفي بإنجازاتهم المعرفية.

مع الأسف فما دار في “مؤتمر الحداثية والحداثة العربية” اتسم براديكالية المعالجة؛ وتطرف العصرنة… وكأنه يستجيب لحالة التطرف الديني السائدة اليوم، في معظم المجتمعات العربية والإسلامية!! وحينما دعا الباحث التونسي د.احميدة النيعر، أستاذ الشريعة في الجامعة التونسية – وهو يكاد الوحيد المدعو من هذا الحقل – إلى ضرورة تواصل الأفكار بين الفقيه والمثقف، ثارت الثائرة عليه، تماماً كما يفعل متعصبو الفكر الإسلامي حين تأتي الدعوة لحوار الإسلام والغرب!! أوالدين والحداثة!!

هذا المستوى من المداولة الفكرية في مؤتمر التحديث الفكري.. عبَّر عن هشاشة كثير من أعضائه، الذين بدوا منفصلين عن واقعهم الراهن، وتاريخهم الحضاري.. ديماغوجيين متمركزين حول أفكارهم المستعارة، الفاقدة للبعد الإبداعي المضاف.. وقد بدت علائم الاحتجاج على مثل هذا التنميط الفكري الجاهز، من بعض أعضائه القليلين، ممن حاولوا التحلي بشجاعة المفكر.. لكن دون جدوى أمام هذا الضرب (الحداثوي) الجديد من التطرف.. أو قل التطرف المضاد.. وهذه أزمة أخرى تضاف إلى أزماتنا الوجودية والحضارية في عالمنا العربي المأزوم

أحدث التعليقات

الأرشيف

Newsletter
Ads
Comments
All comments.
Comments