من بين الأسماء التي تتلمذتُ على مقالاتها، في عالم الصحافة العربية.. يأتي اسم أحمد بهاء الدين.. الكاتب المصري الراحل، الذي امتازت مقالاته الصحفية بالعمق الفكري، والتحليل الدقيق لأوضاع العالم العربي.. فهي مقالات تتجاوز في معظمها التعليق السياسي السطحي، إلى التعمق التاريخي في أسباب الأحداث المصرية والعربية والإقليمية، مما أكسبها استشرافاً مستقبلياً في الرؤية، ومعالجة فكرية في الصياغة.. لذلك كانت مقالات أحمد بهاء الدين، تمثل غذاءً روحياً للسياسي والمثقف والأديب في مصر وخارجها..
ومع أن الرجل عاش أوج سنوات الحرب الباردة، في السياسة الدولية والصراع الأيديولوجي.. إلا أنه كان كاتباً مقبولاً من الجميع، محترم الرأي من كافة الأطراف.. صنّاع القرار السياسي ومعارضوهم، في مصر والعالم العربي، يفتحون أبواب مكاتبهم أمامه.. ورجال الفكر والصحافة في العالم العربي يعتبرونه واحداً منهم.. وهو بدوره لم يتخندق في هذا الجانب أو ذاك، وإنما كان مفكراً صحفياً ليبرالياً، فتح عقله أمام كافة تيارات الفكر السياسي والثقافي المعاصر.
@@ ومنذ أن عمل في مؤسسات مصر الصحفية الكبرى، ابتداء من روز اليوسف، مروراً بالهلال، وانتهاء بالأهرام، لم ينسَ يوماً دوره كاتباً مستنيراً ومنوّراً، عالج هموم المواطن العربي بجرأة مسؤولة، دون أن يلجأ للاصطدام بالمؤسسة السياسية.. وحتى حين اختلف مع الرئيس أنور السادات على بعض القضايا المصرية والعربية، واضطر للهجرة صوب الكويت مترئساً تحرير مجلة العربي، فإنه لم يقطع شعرة معاوية، مع معاوية المصري!.. بل أصبح كاتب خطبه حتى آخر أيام حكمه.. ويبدو لهذا وجد أحمد بهاء الدين نفسه، يسجل سابقة غير متوقعة في كتاباته المتسمة بالعقلانية، فينشر مقالاً في مجلة المستقبل الصادرة بباريس، ينحو فيه باللائمة على سياسيي مصر ومثقفيها ونقابييها، ممن اعتقلهم السادات قبل اغتياله، بسبب معارضتهم لسياسته المتورطة في فخ كامب ديفيد.. وهذه سقطة غير مغتفرة في تاريخ هذا الكاتب الكبير.
على أية حال هذه أحد إفرازات علاقة المثقف بالسلطة في عالمنا العربي!
@@ على أن علاقة أحمد بهاء الدين لم تكن على هذا النحو باستمرار.. إذ بدا فيها مستشاراً حكيماً يستمزج رأيه، أو صحفياً موثوقاً تُسرب عبر تحليلاته ويومياته بعض المواقف والأخبار، مما أكسب مقالاته طعماً مميزاً، نفتقده اليوم لدى كتّاب الأعمدة السياسية، هؤلاء الذين يعتمدون في الغالب، على ما تنشره الصحف من أخبار وتحليلات، وتبثه الفضائيات من برامج ومقابلات!! وينحصر دورهم الكتابي بإعادة إنتاج ما تتداوله وسائل الإعلام، فيما يكتبون من كتابة صحفية استهلاكية سريعة التفكير، ومرتجلة التحليل، مما يجعل من كتاباتهم معرضاً هزلياً تتصارع أفكارهم متناقضة فوقه، فما كتبه هذا الكاتب الموسومة زاويته بالتحليل السياسي – أمس – يتناقض جملة وتفصيلاً عن ذات الحدث أو الظاهرة – اليوم -!!
.. وبالتأكيد فهذا يعبر عن افتقار هؤلاء لضعف شديد في شخصياتهم الثقافية والمهنية .. إن لم نقل النفسية؛ مما يعرضهم لاستخفاف القراء، وسخرية المعنيين بالموضوعات التي يتناولها، كتّاب غير مكتملي الثقافة السياسية، والتجربة الثقافية.. والافتقار – فوق ذلك – إلى علاقة مميزة بصنّاع الأحداث.. كما كانت عليه تجربة ذلك الكاتب العقلاني المرموق.. المفكر الصحفي البارع أحمد بهاء الدين.