حمير غزة بين حبيبي وكنديد!

قبل أسابيع اشتكى أهالي غزة من تكاثر الحمير في قطاعهم المحتل!! وقدّر مسؤول في بلديّتها عدد الحمير والبغال بما يزيد على ستة عشر ألـفاً!! ولأن شر البلية ما يضحك، راح يسرد طرفاً من معاناة الأهالي مع النهيق عند الفجر.. ولك أن تتصور انطلاق هذه الضوضاء الصوتية دفعة واحـدة.. ما أن يبدأ حمار بالنهيق، حتى يتبعه الثاني والثالث إلى ما لا يحصى من الأصوات المنكرة!.

وإذا كانت هذه الظاهرة الفريدة من نوعها، فقد أضافت إلى معاناة فلسطينيي غزة الاحتلالية، معاناة أخرى إلا أنها بطبيعة الحال أرحم من المعاناة التي يتسببها ضدهم، من يشبه وحيد القرن، في ضآلة عقله، وحماقته في اجتياح بيوت الفلسطينيين، وكأنها من الخزف، إذ يدمرها في غمضة عين، فإذا بساكنيها مشردون خارج منازلهم، كما هم فلسطينيّو الشتات، مشردون بعيداً عن وطنهم..

@@ لكن هل انعدم كل خير من حمير غزة؟

يبدو أن الأمر ليس بالصورة السلبية دائماً .. فقد عرف عن الحمار.. هذا المخلوق الجميل، خدمات جلى، يعرفها أبناء الريف في كل مكان في العالم.. وأنا شخصياً طالما شاهدت في صغري فلاحي القطيف، وهم يمتطون حميرهم البيضاء الرهواء، وما يزال في رؤوسهم بقايا نوم، بينما حميرهم تسوقهم بمنتوجاتهم الزراعية، إلى السوق المركزية في المدينة عند الصباح الباكر.

أما حمير غزة وبغالها فطالما استخدمها الفلسطينيون، في مواجهة حصار الدبابات الإسرائيلية،حين يخترقون الطرق الالتفافية بحميرهم، التي كتب عنها أديب الأرض المحتلة وروائيها الساخر، أميل حبيبي في رائعته عن “سعيد إبي النحس المتشائل” ومما ذكره عن فوائدها أن لحمها صُدّر إلى مطاعم تل أبيب، كأشهى مقانق تناولها الإسرائيليون في حياتهم!!

@@ ولأن أميل حبيبي قد تأثر في صياغة روايته الممتعة، برواية أكثر إمتاعاً، هي رواية.. أوقل ملحمة “كنديد” التي كتبها المفكر والأديب الفرنسي فولتير في القرن الثامن عشر.. وفيها اختزل تجربته الروحية والأدبية، وهو يُطرد من ذلك القصر المنيف، ليطوف في أنحاء الدنيا من أوروبا إلى أمريكا اللاتينية، حتى يقف عند صادق الفارسي في إيران ! قاصّاً ما تعرض له ومعلمه الفيلسوف، من مواقف تترنح بين المآسي والطرائف، بحثاً عن حبيبته “انتغونيد” التي علقها قلبه منذ قابلها لأيام،في ذلك القصر الفرنسي الأسطوري.

ويبدو أن أميل حبيبي قد تأثر بأسلوب فولتير الساخر، والثائر على الأوضاع الاجتماعية والثقافية، فراح يكتب “المتشائل” شخصية لا يبتعد تماهيها عن شخصية “كنديد” المضحك المبكي.. وإذا كان الحمارقد ورد في أحد فصول “المتشائل” مواجهاً التحديات الإسرائيلية، فإن فولتير قد أورد الحمار مورداً سهلاً، في أحد المواقف مع كنديد.. هذا الباحث عن قيم الحق والجمال والخير، ثائراً على الأخلاق الكنسية المتزمتة.

@@ لكن ما الذي جعلني أكتب هذا المقال عن حمير غزة، في وقت يتعرض فيه الفلسطينيون كافة، إلى جرائم يرتكبها وحيد القرن.. بل قل وحيد القرون في خسته ودمويته وإرهابه.. وما غيره شارون.. هل بهدف الابتعاد عن المشاهد الدموية، التي تستفز أعصاب الجماد، إن كان لها أعصاب!.. أم بسبب الإشارة إلى تراث أحد الرموز الفلسطينية ممن تكاد خدماته، تتوارى عن أنظار القراء العرب، بعدما أهرق عصارة عمره، في خدمة عقولهم.. أعني الأستاذ عادل زعيتر، الذي ترجم روائع الفكر والإبداع الإنساني، إذ كانت رواية كنديد، المترجمة بلغة آسرة، واحدة من أعمال أخرى.. تبدأ من مؤلف غوستاف لوبون البديع عن “حضارة العرب” ولا تتوقف عند دراسة آرنست رينان عن “ابن رشد و”الرشدية” إلى غير ذلك من روايات ومؤلفات.

.. وأخيرا أراني أهدي مقالي هذا – على غير العادة – !! إلى صديقي الشاعر الأستاذ حسن السبع، الذي تمنيت أن يكون هو كاتب هذا الموضوع.. فهو صاحب قلم ساخر ساحر، وفوق ذلك فلديه نافذة مفتوحة على الإبداع الفرنسي..

أحدث التعليقات

الأرشيف

Newsletter
Ads
Comments
All comments.
Comments