هكذا هي أخطاء الحاكم الفرد المستبد برأيه، دائماً ما تقود إلى الهاوية!
صدام في العراق.. وغيره في بلد عربي آخر الذي يبدد أموال شعبه على تغطية حماقات سياسية وعمليات إرهابية، صرح بتحمل مسؤوليته عنها!!
لكن دعنا اليوم مع الأول بعدما قاده انفراده بالرأي في مصير بلده، إلى هذه الحافة التي وقع فيها العراق.. ولا يعلم سوى الله وحده متى سيخرج من هاويتها السحيقة.. هذا البلد الذي سبق البلدان العربية جمعاء في تجربة التنمية والإعمار؛ رغم أن مصر مثلاً سبقته في ميدان التعليم والانفتاح على حداثة الغرب.. هو من استطاع أن يكيف أوضاعه الاثنية والمذهبية والعشائرية الصعبة، تكييفاً مدنياً حين تم للعهد الملكي محاولة الحكم بدستور وطني.. صحيح أنه جاء على درب دعوات، صدرت من داخل العراق وحوزته العلمية، بضرورة تقييد الحكم الفردي العثماني أو القاجاري بالمشروطة ضد المستبدة، التي أطلقها الإمام النائيني، وطبقها الإمام الخالصي، بمعارضة توجه المعتمد البريطاني في بغداد، نحو فرض دستورلا يتماشى مع واقع العراق وخصوصيته؛ فكان أن تم نفيه إلى الخارج، على أن لا يمس جانبه. ولا يتعرض إلى أهله.. هكذا كانت توصية فيصل الأول، الراضخ لإرادة بريطانيا بنفي الخالصي دون رضاه.
غير أن “الاستعمار” مع جملة مساوئه، لم يُرد للملك الهاشمي أن يحكم بمفرده.. فقد قيّد ببرلمان ودستور وأحزاب وصحافة حرة.
قد يقول الثائر على ثقافة الحكم الملكي ما يقول.. إلاّ أنه لن يتمكن من نكران مستوى الاستقرار السياسي، الذي نعم به العراق حتى آخر يوم قبل انطلاق انقلاب 14تموز العسكري سنة 1958م.
والسبب في ذلك لا يعود إلى الحكم الملكي، بقدر ما يعود إلى دستورية الحكم، ومحاولة “لبرلة” المجتمع العراقي، عبر تمثيل أطيافه المتلونة في الأحزاب والجمعيات، كانت رغم بكارتها، وعدم نضجها، برداً وسلاماً على العراقيين، المعروفين بتقلب مزاجهم السياسي الحار؛ وعدم رضاهم عمن يسوسهم، ويحكم أمرهم.
وما نراه اليوم من توجه واسع نحو التعبير عن الهموم والقضايا، في عراق ما بعد صدام حسين، لدى شرائح المجتمع العراقي.. لا يأتي من فراغ.. وإنما يعود إلى تلك الحقبة التي جعلت العراقيين يحاسبون حتى مليكهم على كل خطوة يخطوها.. ومن يقرأ في الأدبيات السياسية لتلك الفترة، خاصة في شعر معروف الرصافي، سوف يخلص إلى أن العراق – وهو تحت هيمنة الاستعمار – كان يخطو خطوات برلمانية غير معهودة في العالم العربي.
ففي الوقت الذي كتم فيه صدام حسين أنفاس العراقيين، بحبس الهواء عن السياسيين والمثقفين وذوي الرأي، إلى درجة الموت في العهد الجمهوري!! كان معروف الرصافي المناوئ للقصر الملكي، يدعو فيصلاً الأول، إلى إقامة “هايد بارك” عراقي على غرار “هايد بارك” لندن، يتم السماح فيه للتعبير الشعبي الحر دون قيود.. هذا ما ورد في واحدة من رسائله الشهيرة، التي جمعت قبل سنوات وطبعت في بيروت.
لم يقتصر الرصافي على إبداء مثل هذه الآراء، المتسقة مع ثقافة تداول السلطة بين القصر والأحزاب السياسية.. بل إنه اندفع يلقي حممه الشعرية ضد الملك فيصل، بلغة افتقرت إلى أدب السجال، وأخلاقية التعبير! ومع ذلك لم تمس شعرة من جلد الشاعر، التواق إلى مقعد في البرلمان العراقي، بعدما كان عضواً في مجلس المبعوثان التركي!