سهرة شعرية على طبق كباب!

بعد هزيمة , 67.لم يتقدم شاعر عربي إلى الوجدان القومي – خارج ظاهرة شعراء المقاومة – كما تقدم الشاعر المصري أمل دنقل..

كان صوتاً شعرياً جديداً، اتسم بالبساطة الجارحة! والنبوءة الشعرية النافذة إلى أعصاب الوهن العربي!

فقبل وقوع الكارثة كان يتقمص روح زرقاء اليمامة، المعروفة في الأساطير العربية بحدة البصر، إلى درجة اكتشاف العدو المتربص بقبيلتها، وهو في طريقه إليها غازياً!.. منبهاً السلطة السياسية في بلده، إلى الاستعداد لخوض المعركة، بقوة السلاح لا بصوت المذياع!! إلا أن “زرقاءه” لاذت بالصمت لكي تنال فضلة الأمان.. أما هو – عنترة المصري!- فقيل له “اخرسء”

“فخرستُ.. وعميتُ.. وائتممتُ بالخصيان!

ظللتُ في عبيد (عبس) أحرسُ القطعان

أجءتزُّ صوفها..

أردُّ نوقها

أنام في حظائر النسيان

طعامي: الكسرة.. وألماءُ.. وبعض التمرات اليابسة” وعندما حانت ساعة الطعان.. إذ تخاذل الكماة والرماة والفرسان.. عندها يدعى عنترة الجديد! هذا الذي ما ذاق لحم الضأن.. الذي لا حول له أو شأن.. هذا الذي أُقصي عن دائرة صنع القرار.. يُدعى الآن إلى الموت بينما لم يدعَ -الآن! – إلى المجالسة!

بهذه الصور التراثية المعبرة عن أخلاق البطولة والفروسية، راح أمل دنقل يسائل الصمت الذي خنقه ومجتمعه، متفحصاً جِمال الزباء “أتحمل جندلاً أم حديداً” ليواصل تساؤله في هذه اللحظة التاريخية الحرجة، كما تساءل من قبل جدها الشاعر الجاهلي القديم: “ما للجِمال مشيها وئيداً” بينما زرقاؤه وحيدة عمياء! عن رؤية جحافل العدو الصهيوني، المستعد لسرقة سيناء والجولان والضفة والقطاع!!

هذا الشاعر الذي تملّك روحية الجرأة التعبيرية، في عهد الرئيس جمال عبدالناصر.. كنا نظنه – شباب تلك المرحلة – شاعراً عبوساً لا يخلو من كبر.. إلاّ أن المفاجأة كانت مدهشة، حين ذهبت إلى زيارته صيف 1974م في مقهى ريش، فأمل دنقل كان أقرب إلى شخصية الصعلوك من شخصية الثوري! صخّاب، يأكل في الأسواق، لا يخلو من دعابة، وسخرية نارية حين يأتي الحديث عن زملائه الشعراء!!

بعد مسامرات ونقاشات اتفقنا على إجراء حديث صحفي لجريدة “الرياض”.. غير أنه اشترط أن أتكفل بعد الانتهاء من هذه المهمة، بعشائه ومبيته في شقتي التي أستأجرتها في شارع عماد الدين!.. وبين هذه الليلة وتلك كان أمل يستجيب لطلباتنا في إلقاء بعض قصائده، عندما يكون مزاجه سلسبيلاً.. إلا أن هذا المزاج قد تعكر وتفجر، حينما علم بمقابلتي لنقيضه الشعري والآيديولوجي.. الشاعر الرومانسي السلس الروح والعبارة محمد إبراهيم أبو سنة.. وبقي السجال حامياً كلما قابلته أو جالسته.. وكنتُ آخذ عليه تناقض مسلكه الثوري، مع ارتهانه لإرادة القاص الشهير يوسف السباعي، وقد قبل أن يقبض منه راتباً شهرياً مقداره أربعون جنيهاً، لقاء اعتباره موظفاً في اتحاد الكتاب الأفروآسيويين، رغم عدم التزامه بالدوام اليومي!!

وأتذكر غداة الاحتفال الدولي برحيل الدكتور طه حسين في قاعة جامعة الدول العربية.. أنني وجدت أمل دنقل، إذ ارتدى بذلة أنيقة بربطة عنق، فكانت فرصة سانحة كي أسدد هدفي نحوه!! ورحت آخذ عليه تنكره لصعلكته الشعرية ومسلكه الثوري.. فها هو يرتقي منصة رسمية، ويتزيا بمظهر برجوازي! لكي يلقي قصيدة عمودية منظومة، في رثاء طه حسين انصياعاً لأمر يوسف السباعي.. ولأنها كذلك فإنه لم يضمّنها أحد دواوينه!!

ومع ذلك بقي بيننا الود ما بقي العتاب!

وإذا كانت مجالسته غدت صعبة لتفلت أعصابه وتقلب مزاجه .. فإنني كنت أعوّض ذلك بقراءة شعره.. وحينما انتهى ذات مساء من قراءة قصيدته الكابوسية! “فقرات من كتاب الموت” التي يبدؤها قائلاً بصوت حنون على غير عادته:

“كل صباح..

أفتح الصنبور في إرهاق

مغتسلاً في مائه الرقراق

فيسقط الماء على يديّ.. دَمَا!

….. ….. ……

وعندما..

أجلس للطعام.. مرغما:

أبصر في دوائر الأطباق

جماجماً

جماجما

مفغورة الأفواه والأحداق”

حينما انتهى لم أتمالك نفسي، ورحت أقبله طالباً قراءة قصيدته “سفر الخروج” إلا أنه بلؤمه الطفولي أقنعني بتأجيل تحقيق رغبتي، إلى ليلة قادمة، وكباب “حاتي” آخر، وسجائر مارلبورو أمريكية النكهة!

أحدث التعليقات

الأرشيف

Newsletter
Ads
Comments
All comments.
Comments