في أمسية صيفية من أماسيّ القاهرة الندية، راح أمل دنقل يلقي قصيدته “سفر الخروج” بنغم أسيان، وبحة متلوثة بعوادم الجو الطبيعي والسياسي.. كان يستعيد سنوات اللاحرب واللاسلم، تلك الحالة النفسية السديمية التي عاشها المجتمع المصري، ومعه المجتمعات العربية بعد كارثة ,
67.وإذ تولى أنور السادات منصب الرئاسة المصرية، بعد موت جمال عبدالناصر المفاجئ، وما تلا ذلك من أحداث دراماتيكية، أدت إلى حالة سياسية جديدة في مصر.. فإن قضية الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، ظلت شاغلاً وطنياً، سيطر على قطاعات المجتمع المصري، وفي المقدمة يأتي حملة القلم.. هؤلاء الذين استجمعوا أنفسهم في بيان، وقّعه المثقفون المصريون من أقصى اليمين مروراً بالوسط إلى أقصى اليسار.. فلم يتخل توفيق الحكيم أو أحمد بهاء الدين.. لطفي الخولي، أوكامل زهيري.. وقدموه إلى الرئيس السادات على خلفية غضب طالبي جامح، ضد حالة اللاحرب واللاسلم، خصوصاً وأن السادات قد وعد الشعب المصري منذ استلامه القيادة، بأن عام 72سوف يكون عام الحسم!.
وحينما لم يأت هذا العام، تحلّق هؤلاء في ميدان التحرير، حول نصب الجندي المجهول، الذي بُني على هيئة كعكة حجرية.. وها هو أمل دنقل المنخرط بينهم يستلهم بهمه القومي والوطني تقنيات العهد القديم والجديد، وما قصيدته “سفر الخروج” إلا محاولة تعبيرية للخروج من هذه الحالة المترجرجة، بينما العدو يقف على أبواب عواصم عربية يهدد أمنها.. فلِم لا يهبط مع القوم المتحلّقين حول الكعكة الحجرية؟! ها هو يصفهم في الإصحاح الثالث من ديوانه الثالث! “العد الآتي” قائلاً:
(عندما تهبطين على ساحة القوم، لا تبدئي بالسلامء
فهم الآن يقتسمون صغارك فوق صحاف الطعامء.
بعد أن أشعلوا النار في العُشِّ..
والقشِّ..
والسنبله.
وغداً يذبحونك.. بحثاً عن الكنز، في الحوصله!
وغداً تغتدي مدن الألف عام.
مدناً.. للخيامء.
مدناً ترتقي درج المقصله).
انه يخشى من أن تواصل إسرائيل نهجها العدواني، في تطويق الدول التي اصطلح عليها مرة دول الصمود والتصدي! وحينما لم تصمد ولم تتصد أسميت بدول الطوق!! يخشى شاعرنا أن تتحول إلى مدن من المخيمات ملأى باللاجئين، لا الفلسطينيين وحدهم، وإنما من غير الفلسطينيين!!.
وشيئاً فشيئاً يتصاعد صوت أمل دنقل.. ينفعل مخاطباً بغضب حبيبته.. هل يعني القاهرة في الإصحاح الخامس من قصيدته.. أو كعكته الحجرية؟!:
(اذكريني!
فقد لونتني العناوين في الصحف الخائنة!
لونتني.. لأني منذ الهزيمة لا لون لي
(غير لون الضياع)
قبلها، كنت أقرأ في صفحة الرمل
(والرمل أصبح كالعملة الصعبة،
الرمل أصبح أبسطة.. تحت أقدام جيش الدفاع)
فاذكريني، كما تذكرين المهرب.. والمطرب العاطفي.. وكاب العقيد.. وزينة رأس السنة
اذكريني اذا نسيتني شهود العيان
ومضبطة البرلمان
وقائمة التهم المعلنة
والوداع!).
بعدها.. وكأنه أفرغ طاقة هائلة ضاغطة على صدره، أخذ قلماً وورقة، ورسم لي شكل نصب ميدان التحرير الشهير، الذي أُزيل بعد الحادث، فكان حسبما رسم الشاعر كعكة حجرية، ولم تكن قصيدته سوى أغنية لمن تحلقوا حولها.. حتى جاء عام العبور سنة 73م.. وحمل معه سلسلة من الأخطاء الاستراتيجية، وفي مقدمتها ثغرة الدفرسوار، التي أحدثها شارون، ليلتف على الجيش الثاني المصري، وينفرط إثرها عقد الاتفاق الاستراتيجي بين قاهرة السادات، ودمشق الأسد، ليمر بمحادثات الكيلو 101ولا ينتهي إلا بزيارة الرئيس المؤمن إلى إسرائيل، كسراً للحاجز النفسي!! حدث هذا سنة 1977م.. في حين كان أمل دنقل يستبطن وقوع الأحداث في قصيدته “لا تصالح” في نوفمبر سنة 1976م وضمّنها ديوانه “أقوال جديدة عن حرب البسوس”.. اسمعه يقول:
(لا تصالح!
.. ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك،
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تُشترى..
… سيقولون: جئناك كي نحقن الدم..
سيقولون: ها نحن أبناء عم.
قل لهم، إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك،
وأغرس السيف في جبهة الصحراء..
إلى أن يجيب العدم)
بهذه الروح العنفوانية ظل أمل دنقل، يستنهض الهمم العربية.. لكن هيهات.. فقد سقط العرب في الفخ، منذ دشنت الزيارة المشؤومة، سلسلة من الأحداث الكارثية، ابتدأت باجتياح شارون بيروت سنة 1982م، بعدما تم التوقيع على معاهدة كامب ديفيد ليتداعى بعد ذلك البيت العربي، حتى شارف على انهيار منظومته الأمنية، بمغامرة صدام حسين الغازية لدولة الكويت، التي جاءت نتيجة تنفيسية لمضاعفات الحرب العراقية الإيرانية.
بين هذا الحدث وذاك، كان الشاعر الصعلوك، يتلوى من ألم الفجيعة، ويتآكل من الداخل.. ولم ينته عام 1988إلا وقد تغلغل المرض الخبيث في جسده الضعيف، ليتوسد سرير الغرفة رقم 108، والتي كانت آخر تجربة شعرية اتسمت بروحية المواجه للموت.. وأصبحت الديوان الأخير في حياته القصيرة.
في هذه اللحظة الأخيرة، حيث عانى أمل دنقل من مرض السرطان، كان للمملكة موقف شهم نبيل مع هذا الشاعر، ولا أنسى ذلك اليوم القائظ، حين دخلت برفقة الصديق القاص محمد علوان، على شاعرنا الصديق الدكتور غازي القصيبي – وزير الصحة وقتذاك – وطلبنا منه العمل على إنقاذ صحة أمل دنقل المتدهورة.. تأثر غازي كثيراً، خاصة وأنه أحد المعجبين بشعره.. وما هي إلا أيام، وإذا به يستحصل على عشرين ألف دولار من الملك فهد، مساعدة منه – حفظه الله – لهذا الشاعر العربي الجريء.. وقد تم تحويل المبلغ إليه – بصمت سعودي معهود – حيث يرقد في معهد السرطان.
هذه اللفتة الكريمة مع الأسف لم تقابل بشكر أحد من أصدقاء أمل دنقل.. رغم أن الكثيرمن الأدباء والشعراء المصريين، علموا بتفاصيل هذه اليد السعودية السخية.. ومع ذلك لم يشر الدكتور جابر عصفور إليها، فيما كتبه مؤخراً في جريدة الحياة عن ذكرياته مع أمل دنقل ومرضه، رغم أن هذه اليد السعودية، قد امتدت الى صديقه، قبل اليد المصرية!!.