لعلك تسألني متى رأيت أبا كامل؟
وأجيبك: قد يصعب عليك التقاط تلك اللحظة البكر، حين التقيت فيها لأول مرة قريباً لك، أو صديقاً لوالدك. فبين غمغمات الطفولة وتفتح الصبا تمرُّ بك مئات، بل آلاف المشاهد، ولا يتبقى منها إلا ما هو حميم بتكوينك النفسي والذهني، إذ يتبلور أبرز ما في تلك المشاهد، حسب الموقف أو الحدث.
هذا ما جرى لي مع أبي كامل، حيث تجاذب المجتمع أطراف النزاع حوله.
ولم لا؟
ومجتمعنا القطيفي كان يمر بوثبته الأولى، نحو العصر العربي المتسم بصراع الأفكار.
هذا ما التقطته الأديبة المصرية الشهيرة (بنت الشاطي) إبَّان زيارتها، قبل نصف قرن، للقطيف، باحثة لزوجها المرافق معها (الشيخ أمين الخولي) عن مخطوطة كتاب (الشافي) للشريف المرتضى، حيث اكتشفت في أبي كامل ومجايليه من رفقاء الدرس والاهتمام، علائم يقظة على جديد الثقافة العربية المصرية.
كانوا، وقتذاك، بعد ما ألقت نهاية الحرب العالمية الثانية بآثارها العاصفة على مجتمعات العالم العربي، قد بدءوا يكسرون قشرة البيضة. يفقسون، وينبت لهم ريش، ولم تكن تلك القشرة سوى سور القلعة، هذا الذي شكَّل الشخصية القطيفية بمفارقاتها الإجتماعية في (غيتو) ثقافي، حافظ أبناؤه، بين ظلاله التاريخية، على نمط من الحياة والفكر، منذ شكلت الحواضر على أطراف الجزيرة العربية، بيئات ثقافية تمحورت حول ذواتها في مواجهة اجتياح الرمال.
لعل في هذا يكمن الإحساس بقيمة الأنا الإجتماعية. هذا المصطلح التاريخي الذي تراوحت صياغته بحمولات جدلية بين ابن خلدون، عالم الإجتماع العربي القديم، والدكتور علي الوردي عالم الإجتماع العربي الحديث، ليتراكم بالمواجهة بين البداوة والحضارة، أو الصحراء والنهر.
وفي عصر أبي كامل تمحور ذلك المصطلح مرة بين العصريين والمحافظين، وأخرى بين الفقراء والأغنياء.
من بيتي المحافظ كنت أطل على هذا المشهد المتجدد، وقد اتخذت حرب المصطلحات منعطفاً جديداً، بل قل منعطفات، بدأنا نتلمَّسها ونحن نتقافز بين أرفف المكتبة الأهلية والنوادي الرياضية، وقريباً من نادي (البدر)، إذ يمور سوق الشمال بحركة دائبة، تشتد وتيرتها عند عودة العمال مع الغروب، بعد يوم متعِب في شركة أرامكو.
.. ها هو ذا أبو كامل بينهما يبدو حيوي الشباب، أبيض الوجه، مشرَّباً بحمرة، حليق الذقن والشارب. إنه في غير الهيئة التي صورها في سمعي أبي، حين كانا في كتاب الشيخين البريكيين، يتوِّج رأسَه بعمامة سوداء انسجاماً مع شخصية السيد ماجد العوامي النبوية، منذ ضرب طوقاً من السواد يطوي رؤوس أفراد الأسرة كبيرهم وصغيرهم. فأين ذهبت عمامة أبي كامل يا أبي؟
وكأنه تنبه إلى سؤالي المستيقظ على مفترق طرق. طفق يناولني مخطوطاً أنيق الكتابة بريشة الملا علي بن رمضان، يستوقفني عند مقال ثوري لأبي كامل عن جده الإمام الحسين بن علي عليه السلام، قرأته بالتهام، واستعدته بالتذاذ. لم يكن أبو كامل وقتها حاضراً بيننا لأزورَه، فقد كان في عصر الغبية الكبرى. ولم يزدني مقاله الحسيني إلا إعجاباً بقلمه، وشوقاً لملاقاته، وما أطل بيننا عائداً بعدما تقصف العمر الجميل، إلا وإذا بي معه على موعد، ذات مساء، متوشِّح بالأمل عند سور القلعة. كنت قد بدأت في اختراقه، مستعداً لخوض مغامرة الصحافة، والتأهب لدخول المجتمع الكبير، وأدهشني – وكان برفقته صديق عمره الأستاذ محمد سعيد المسلم – أن بادآني بالسلام الحفي، والتحايا الحارة، فكيف عرفاني، وقد تركاني طفلاً يخطو، متعثراً، بين أزقة القلعة المظلمة، وها هما اليوم – بعد عصر الغيبة الكبرى – يرياني على امتداد الشارع المضاء، خارجاً من كُوَّة السور القديم إلى الخربشة فوق صفحات جريدة اليوم؟
إذن من هنا كانا يتابعان تلعثماتي الكتابية بسعادة، حقاً كانا فرحين بميلاد قلم، بعد ما تكسرت النصال على النصال.
ومن يومها انعقدت صداقتي بأبي كامل، وقد وضحت الصورة أمامنا منذ منتصف السبعينات حتى رحيله المفاجئ، بأن فنَّ الممكن غدا خياراً واقعيا في معالجة قضايا المجتمع.
لقد ترسخت هذه القناعة لديه، حتى وجدناه في سنيه الأخيرة يستدعي من ذاكرته القطيفية المضمخة بأطياف الماضي، واليانعة بثمار الواقع، هذه الصورة السيرية لرجال عاصرهم، واستمد من خبراتهم الثقافية والإجتماعية والسياسية العون المتراكم، مع مواصلة المشوار، حتى نهاية الطريق، من القلعة المسورة إلى البحر المفتوح على جميع الآفاق.