كنت في مكتب توفيق الحكيم بجريدة الأهرام القاهرية منتصف السبعينيات حين دخلت امرأة تعتمر عمامة من قماش. هشّ لها الأديب المصري الكبير ونش وكأنه التقط خيطا خفيا يشدني إليها..
طرق يُعرِّفني قائلاً: أديب جاء من السعودية لا بد أنه قرأ ما كتبت عن أهل بيت النبوة وعلى الفور أدركتُ أنه يقدم لي بنت الشاطئ، ومن فورها راحت تسترجع شريط ذكرياتها حتى توقفت عند المحطة القطيفية حين زارتها مع زوجها الشيخ أمين الخولي سنة 1951م سألتني وكأنها تبحث عن صورة ضائعة بددتها يد الزمان: لديكم شاعر فحل ألقى أمامي قصيدا بارعا فيه تغنى بأمجاد بلادكم، ساعدني على تذكر اسمه إني لم أعد أسمع له ذكراً.
قلت لها إنه الجشي عبد الرسول أو عبد الله هو الذي غنى لبلادي أجمل الشعر أتحبين سماع بعض ما قال أ و بعض ما رسخ من قصيدته تلك؟ قالت: أنشدنا.فرحت أنشد:
هذي بلادي وهي ماض عامر
مجدا وآتٍ بالمشيئة أعمر
ولا أزيد فقد أصبحت من الكلاسيكيات الأدبية.
وقاطعتني بنت الشاطئ في الاستحسان ومالت على توفيق الحكيم تقول له: لقد أدهشني أن أجد في القطيف تلك البقعة المزوية عن الأضواء هذا المستوى الرفيع من الشعر، بل كانت مفاجأتي وأنا أجد شبابا يعرف عن تفاصيل الحياة الأدبية جزءاً يكاد لا يعرفها الكثيرون من أدبائنا.
هزّ توفيق الحكيم رأسه مستحسنا هو الآخر ما قرأت غير أنه قال: ذكرتني هذه القصيدة بقصيدة أخرى قالها الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري حين زار مصر في العام الذي زارت فيه بنت الشاطئ وزوجها المملكة، قاطعته قائلا: توفيق بيك نعم ولكن للجشي نكهته القطيفية..
نعم الجشي لم ينكر يوما أنه تلميذ ألجواهري أليس هو القائل في سنة تكريمه سنة 46 بالنجف الأشر فـ:
يا شـاعر النهرين لو لم يخصبا
أرض العراق أباطحا ونجودا
لكفى نبوغكَ أن ينضّر وجهها
حتى ترفَّ زنابقًا وورودا
أكبرت شـعرك طارفا وتليدا
وقرأت فيه المعجزَ المشهودا
ورحت أسأل عن الجشي إبان غيبته الكبرى مقسما على نفسي لأحضرن ولم لا؟
قبل أن يلقي أبو قطيف عصى تسياره ها هو يستعيد لياقته الشعرية بعد صمت استمر طويلا فهل يجد غير الجواهري يقوده إلى دار الشعر وهو في مختلف تحنانه إلى سعفات القطيف، كما هو الجواهري يحن إلى هضبات العراق في مقصورته:
سلام على هضبات العرا
ق، وشطيه والجرف والمنحنى
على النخل ذي السعفات الطوا
ل على سيد الشجر المقتنى
على الرطب الغضِّ إذ يجتلى
كوشي العروس وإذ يجتنى
أما الجشي فهو يقول بعد ذلك بسنوات:
سسلام على هضبات (الحجاز)
تشمخ كالأنسر الطائره
و(نجد) وآرامها والصَبا
وعزةِ أمجادها الغابره
سلام على سعفات (القطيف)
وشطآنها الحلوة الزاهره
وجناتِ أحبابنا (بالهفوف)
ونيران (ظهرانا) الهادره
لن تجد شاعراً عربياً تغنى ببلاده كما تغنى الجشي.. وهو غناء وطني صميم ينبثق من قلب مسكون بحب الوطن كله.