من شعراء القطيف: قراءة أولى في شعر أبي البحر الخطي

.. ما هي اللغة التي لا تحيل إلى شيء خارجها؟ يجيب (تزيفتان تودوروف):

إنها اللغة المختزلة إلى ماديتها فحسب، إلى أصوات وأحرف، إنها اللغة التي ترفض المعنى.

السنيا تصبح الأصوات موضوع انتباه، إنها تكشف عن قيمتها المستقلة[1] .

وهنا أبتر سياق هذه المقولة النقدية لأقتحم وإياكم هذا النص الشعري الذي نقرؤه هذه الليلة.

بادئ ذي بدء.. نجد أن القراءة الأولية لهذا النص تستوقفنا فيها مجموعة من الأصوات الحادة، والملامح النافرة، في هذا الجسد اللغوي.. منطوية في منظومات دلالية ثلاث تتحدد فيما يلي:

الأولى: منظومة البحر.

الثانية: منظومة الحرب.

الثالثة: منظومة الدم.

إن لكل منظومة أسرة معرفية، ولغوية دلالية تشكل في النهاية عالم النص.. وتبرز في الحقل الواضح للوعي.. كما يقول (تودوروف) مستكملاً جملته المبتورة تلك -ذلك إن قراءتنا لمجمل الدلالات- الآتي ذكرها- في إطار النص الموضوعي.. توقفنا أمام تشكيلة متلاحمة من المدلولات ضمن بنية جدلية تتركب -مادياً وتاريخياً وإنسانياً- في رؤية شعرية جمالية لها خصوصيتها التاريخية وقوانينها الفنية وإطارها المعرفي.

إن العلاقة الجدلية التي يطرحها هذا الناقد الشكلاني (تودوروف) بين مفردات النص البارزة وبين الحقل الواضح للوعي هي مصادرة للقراءة النقدية المغلقة، إذ (لا توجد العلامات خارج مجتمع ما، مهما كان عدد الأفراد ضئيلاً)[2]  وما هذا الاهتمام (الميتافيزيقي) بتفسير النص تفسيراً إشارياً إلا تعبيراً عن (أزمة سببها نفاذ المواضيع الفكرية التقليدية).. ذلك أن استعمال الإشارة في عملية التواصل لا يتم إلا ضمن عمل جماعي)[3] .

ومن هنا فإننا سوف نقوم بقلب صيغة السؤال الذي طرحه (تودوروف) ونحن نقرأ نص شاعرنا الخطي.. ليكون على هذه الصيغة.. على أي شيء يحيل إليه هذا النص في الخارج؟

إن هذا السؤال يشكل هاجساً (استراتيجياً) جمالياً سنجده ينفجر كلما واصلنا قراءتنا لـ(السبيطية) وهو بطبيعة الحال يواجه القراء التقليدية، التي تبعثر هذا النص إلى موضوع شعري يقوم على حكاية عادية، أو حدث مألوف كان يتعرض له كل إنسان عاش في هذه المنطقة الغارقة في البحر.

لقد كان مألوفاً وطبيعياً أن يركب البحر من أجل الصيد أو الغوص.. أو الانتقال من مكان إلى آخر.. وهذا بالضبط ما حدث للشاعر حين رافقه ابنه عابراً (البحر من محله قرية (كتكان توبلي) قاصداً قرية (بوبهان) وذلك حالة الجزر ولما توسط معظم الماء وثب بعض السمك واسمه السبيطي نافراً في وجهة، فشق وجنته اليمنى فنظم هذه القصيدة الغراء سنة 1019هـ[4]  كما يقول روايته الفنوي.

غير إنني سأتجاوز عن هذا منساقاً وراء (تودوروف) في نظرته إلى اللغة المختزلة التي لا تحيل إلى معنى، بل تختزله إلى أصوات وأحرف.. منطلقاً من ذلك -في البداية- بالتركيز على مظهر النص الحسي: إن هذا سيجعلنا قريبين من استخدامات الشاعر للغة في هذا النص.. وما إذا كانت تعبيراً انحرافياً عن السياق الشعري السائد في عصر الشاعر الذي كان ينوء بإعاقات موضوعية وفنية عرفها الدارسون في ظاهرة أدب عصر الانحطاط الذي ران على المنطقة العربية منذ سقوط بغداد تحت سنابك التتار سنة 656هـ حتى قيام معركة الاستعمار الحديث في القرن العاشر الهجري ليمارس دوراً آخر أشد خطورة وفداحة في إعاقة المجتمع العربي الإسلامي إعاقة حضارية مركبة.

تتكون تلك المنظومات الدلالية الثلاث من مفردات أي علامات ذات طابع تكراري مما يشير إلى شخصية لغوية في النص.

المنظومة الأولى: وتتشكل من الدلالات التالية:

السبيطية، البحر، بحر البلاد، الحوت، خور الماء، الجزر، طافر، راكب البحر، الطفح، الرسو، الغيص، الدر، السباحة، القعر.

المنظومة الثانية: وتتشكل من الدلالات التالية دم، يراق، أطراف، القنا، دامي، الفم، الذبح، السكين، نزيف الدماء، النقط الحمر.

هذه المفردات التي تكون محاور النص، نستطيع تركيبها في معادلات موضوعية، تأخذ المنظومة الأولى عالم البحر أو الوطن، وتأخذ المنظومة الثانية عالم الحرب أو الاستعمار، أما المنظومة الثالثة فتأخذ عالم الإنسان.

وسوف يبلور لنا سياق هذه القراءة كيف تتشكل هذه المنظومات الدلالية في بناء رؤية الشاعر في هذا النص.. الذي كان من أبرز انحرافاته عن سياق مرحلته الشعرية – أنه نص واحد يتنامى فنياً وموضوعياً نمواً يثور على تعددية الأغراض التي عرفتها القصيدة التقليدية.وبعد ذلك فإن مجموع هذه الدلالات السطحية تشير إلى مدلولات عميقة غائبة!! كأن الشاعر قد قرر عن إرادة فنية واعية عدم الإفصاح عنها.. لأسباب سوف تتضح لنا.

فهو -كما سبق القول- يقوم بصياغة نصه الشعري، سابكا في نسقه تفاصيل حدث محدد، يتمحور حول إصابته بضربة شقت يمنى وجنتيه -ولا ضربة الفهر!- وهو يخوض بحر البلاد بين (توبلي) و (بوبهان) في البحرين.. حين فاجأه طافر من الحوت.

إن هذا الحدث العادي يأخذ في نفسية الشاعر وأدائه الشعري بعداً (خيالياً يوهمنا، ويظللنا بانتصار السمكة على الإنسان – على غير العادة.. في زمن ومكان جعلا الإنسان قادراً على التحكم بأهوال البحر وموارده.. بأسماكه ولآلئه، فكيف بالشاعر -هنا- ينهزم أمام ضربة (سبيطية)؟ إن الشاعر يوسع من دائرة التعبير الشعري عن حدث عادي، بل إنه يحمله ما لا طاقة باللغة الشعرية السائدة في عصره، راسماً أجواء مهولة ومفزعة، تتقاطر منها الدماء.. حتى كأنه يشير إلى حقيقة موضوعية أكبر من الشعر نفسه!

إن صروف الأيام، أو القضاء -كما يؤكد الشاعر- تحامته، وأطرافه القنا تعرضت له، فيا بؤس الحوادث والدهر الذي جعله يركب البحر ليضربه طافر من الحوت. وأين؟ في وجهه!! هكذا يجرد هذا الطافر الذي ضربه في مكان يرمز إلى كرامته واعتزازه.. ويحيله إلى قوة كونية يختزلها الشاعر في سمكة شهية المأكل!! أهكذا تنظر الشعوب الصغيرة إلى مستعمريها المتحضرين، الآتين من وراء البحار!! وتأخذ هذه القوة الكونية في تشكل شعري متعددة فتارة تأتي على هيئة أطراف القنا -كما في البيت الخامس- وهي تحيط بالشاعر الذي يؤكد على وحدته في القصيدة دون أن يشير إلى أي دورمضاد قام به هو نفسه، أو حاوله ابنه (حسان) الذي كان معه في هذه المحنة. وكأن هذا الاستلاب الذاتي والاجتماعي الذي يسقطه الشاعر على محنته هو ما كانت تعانيه المجتمعات الزراعية في المنطقة أمام فلول البادية التي كانت تكتسح الأخضر واليابس دونما رادع مدني!! حتى أصبحت الأحساء والقطيف -آنذاك- مجالاً حيوياً خصباً لنزاعات قبلية متصارعة، وقد أشار الشاعر أو روايته إلى ذلك في رثائه لأحد شباب القطيف – الذي كان أبوه قبل وفاته قد وقعت عليه اللصوص ونهبوه وأثخنوه جراحاً وبقي في البادية مطروحاً بين الأحساء والقطيف وذلك سنة 1022هـ[5] .

إن هذه الحادثة تتصل بمجموعة من الدلالات،وردت في عدد من قصائد الشاعر، تشير إلى واقع سياسي واقتصادي مضطرب.. يتضح أحياناً في مواقف شعرية صارخة. يقول – وقد فر من وطنه، متشوقاً إلى ربوعه:

وَلَعِنْدي عَلَى الوُقوفِ بِهَا

تِيكَ النَّواحِي وتلكم الأبوابِ

مثل ما عند ذِي المخافة للأمـ

ـنِ وما عِنْد ذِي الصَّدَى للشراب

وتتكامل الصورة المخيفة حين يشتد نشاط الإقطاع في بلده نشاطاً يجعل الشاعر على هامش الحياة، فهو يستهدي أحد أصدقائه شيئاً من التمر:

لَكَ اللَّه بَيْتٌ أقفرتْ حُجُراتُهُ

مِنَ التمرِ يَسْتهدِيْكَ شيئاً مِنَ التَّمْرِ

وفي نص آخر يقول: إنه لا يملك في بيته حبة شنبة.. وهو من أردأ أنواع الرز -وقتذاك- وما البؤس الذي يشير إليه الشاعر في البيت السادس من (السبيطية) إلا نتيجة لهذا النهب الداخلي الذي يجعله وهو يمدح وزير البحرين ركن الدين محمود بن نور الدين بن شرف الدين يقول: إنه -أي الوزير- “يقتاد من أملاكها ما شاء”[6] .

إن الشاعر هنا يشير إلى شبكة العلاقات التاريخية المتبادلة بين النهب الداخلي الإقطاعي والنهب الخارجي الاستعماري، التي كان يقوم عليها النظام الاجتماعي المختل في وطنه، فالوزير ذاك لم يكن سوى والٍ تركي، والذي كان لا يستقر في مكانه لفترة.. حتى يتحالف الاستعمار البرتغالي مع الشاه عباس الصفوي ليحكم البحرين أمير فارسي، ليمد نفوذه إلى القطيف، ضمن معاهدة يكتبها الطرفان لمواجهة الأتراك الذين يعاركون الصفويين في تلك الفترة. وقد يحكم قائد حملة برتغالي المنطقة كما حدث لـ(الفونسو دي أنورونها) وما أن يثور عليه الأهالي حتى يعمل السيف في الرقاب. إن ثمة قوة كونية تكبر في (خيال) الشاعر.. فإذا (صروف القضاء التي جرت على الحر) كما يقول في (السبيطية) تأتي على هيئة استعمار عالمي مدجج ودمري، حمل البرتغاليين إلى حواضر الخليج العربي ووطن الشاعر في القطيف ليعيثوا فساداً وقتلاً وحرقاً ونهباً.

إنه شيء كبير جداً، لا يتصوره عقل بشر، ولا يخطر على هاجس شاعر، ولا تستوعبه لغة جبانة كاللغة الشعرية في زمن الشاعر.. حين انطلقت بواخر البرتغاليين سنة 1406م من (لشبونة) مروراً بـ(مليندي) على الشاطئ الشرقي للقارة الأفريقية.. ومن هناك يدلهم البحار العربي ابن جلفار (أحمد بن ماجد) على طريق التجارة العالمي الذي يصل الهند بأوروبا.. ثم ترتد الحملة البرتغالية إلى شواطئ الخليج العربي بقيادة البوكيرك سنة 913هـ/ 1507م.

وحينما وصل البرتغاليون إلى المنطقة بهدف اقتحام مملكة هرمز من أيدي بعض القبائل.. فإنهم يواصلون غزوهم إلى البحرين والقطيف سنة 928هـ/ 1521م بعدما سيطروا على مسقط وقلهات وخور فكان وصحار، وتتحرك المقاومة الشعبية أثر ذلك في المنطقة ويتحدد يوم 30 نوفمبر 1921م (928هـ) يوماً للثورة على الاستعمار البرتغالي في كل مراكز الخليج العربي.. وتم إحراق المراكب البرتغالية.. وقتل الحامية البرتغالية في هرمز، وقامت بقية المراكز التجارية العربية بتنفيذ المهمة المتفق عليها[7] .

وفي سنة 933 قامت انتفاضة أخرى، ورغم حركات القمع الشديدة التي مارسها البرتغاليون ضد أبناء الخليج إلا أنهم لم ييأسوا ولم يركنوا إلى الاستسلام أو الضعف ففي سنة 936هـ – 1529م قام أهالي البحرين بانتفاضة ضد السيطرة البرتغالية، ولم يكف أهل الخليج العربي.. ففي سنة 994هـ حاول البرتغاليون شن حملة بحرية على (نخيلوه) تقع على ساحل الخليج العربي ولكنهم وقبل أن يصلوا إلى الساحل ظهر أهل (نخيلوه) على حين غرة وأوقعوا بالبرتغاليين الهزيمة[8] .

لقد كانت حركات المقاومة الشعبية هذه -التي وصلت إلى مسامع شاعرنا دون شك- رد فعل وطني ضد ما قام به الاستعمار البرتغالي العسكري من مجازر ومذابح بشعة، لم يستطع المؤرخون ذوو النزعة العنصرية الاستعمارية من أمثال (مايلز) إلا إدانتها… إن واحداً مثل (سوزا) يصف -بنوع من التباهي- وحشية البرتغاليين بعد المعركة فيذكر كيف أن الجنود البرتغاليين كانوا يصطادون جثث المسلمين التي طفت على سطح الماء، لنهب حليهم الذهبية التي يرتدونها[9]  أما (ميلز) فإن كتابه “الخليج.. بلدانه وقبائله” يشير -ضمن إشارات المؤرخين- إلى دم مراق.. دم يصبغ البحر.. ويحاصر الأفق.. وكان ذلك طبيعياً والبرتغاليون يختارون لمعاركهم وغزواتهم البحر مجالاً حربياً.

فصاروا.. كما يعبر النهروالي -صاحب “البرق اليماني في الفتح العثماني”: (يقطعون الطريق على المسلمين أسراً ونهباً.. ويأخذون كل سفينة غصباً). لقد أفزعت الشاعر حمرة البحر القانية.. التي تراءت له، والسبيطية تضربه لينزف دماً لم يرق من عهد نوح.. هكذا ليس بصورة (فانتازية) كما نتخيل. وإنما هو واقع حي ترسب في الذاكرة الشعبية، لتنفجر في قريحة شاعرنا الخطي، فقد كان البرتغاليون -كما أجمع المؤرخون- يقومون حتى في حالة استسلام الأهالي وإخلاء المواقع، بحرق المدن ودك الحصون، وهدم المساجد وجدع الأنوف وصلم الآذان وقطع الرقاب. (إنهم يقومون بالقتال والإبادة دون تمييز بين النساء والرجال والأطفال إضافة إلى النهب والسلب وحرق المنشآت والمنازل، وحرق السفن، والاستيلاء على الأسلحة من السيوف والسهام والأقواس)[10] .

إن وضعنا البيت الثاني والعشرين من قصيدة (السبيطية) في هذا الإطار يجعلنا نتحسس مدى الرعب الذي كان يسيطر على أبناء المنطقة وإلا ما الذي يجعل مواطنا قطيفياً أو عمانياً أو بحرانياً يعبر البحر من مكان إلى آخر -وقد تعود على ذلك في حياته- فتضربه (سبيطية) ليقوم:

كهديّ ندَّ من يَدِ ذابح

وقد بلغت سكينُهُ ثَغرةَ النحر

وحين يطرحه نزف الدماء من جراء ذلك لا ينسى أن يستعيد في تلك اللحظة علاقة الاستبداد والنهب والذبح الاستعماري بالنهب الداخلي.. ويتساءل بحس (درامي) شعري، ساخر ومر.. نافذ وذكي.. عن امرئ لا يلبس الوشي كيف غدا موشى الجيب ولكن بالنقط الحمر؟! بالدم الذي كان مراقاً من دم البسطاء.. هذه هي قضية الشاعر الأساسية -كما تمليها شواهد أخرى في عدد من قصائده- وتتخطى دلالة الدم عند الشاعر.. إلى الثأر.. في نهاية القصيدة.. وهو ثأر مقموع تاريخياً لكنه ينفجر في زمن الشاعر، وكأنه يجمل القضية في البيت الأخير.. يجعلها قضية صراع طبقي فكري، أوجده الاستعمار الحديث منذ بداية وصوله إلى منطقة الخليج العربي في القرن السادس عشر الميلادي..وذلك قبل بروز الدول القومية في المنطقة.

وإن الأتراك حين جاؤوا إلى المنطقة بعد ذلك أكدوا على هذه التركيبة السياسية الاجتماعية والاقتصادية والفكرية ضمن السياق الإقطاعي منذ مجيئهم سنة 957هـ/ 1550م حين أعلن أهالي القطيف تبعيتهم للدولة العثمانية احتماء بها من السيطرة البرتغالية.تداخل النصوص

(في مثل هذه الرهبة، وفي هذا البحر المتلاطم الأمواج ولد شاعرنا أبو البحر ولسانه معقود من السيف المسلول على رأسه، وقلبه يزحف فرقاً من أن يلمح ولو تلميحاً إلى حالة عصره السياسية)[11]  هكذا يعبر خالد الفرج.

لكن ماذا عن الواقع السياسي الذي عاشه شاعرنا؟ الأستاذ خالد الفرج يصف هذا الواقع الممزق إقليمياً في المنطقة ويؤكد على وجود ملتزمين من أعيان العرب يؤدون الأيالة إلى الاستعمار البرتغالي.. غير أن الأتراك حين احتلوا القطيف، انتهجوا سياسة غير عادلة مما اضطر أمراء القطيف من آل المقلد إلى الفرار إلى البحرين وكان في مقدمتهم زعيمهم عبداللَّه بن مقلد الذي ترك القطيف مع جماعة من إشرافها لأمر هناك!! كما بعبر الخطي أو شارح ديوانه في مقدمة رثائه له:

وأقسم لولا موته في فراشه

لجردت البيض المهندة البتر

وأَزْعَشَتِ الملدُ المثقفة السمرُ

وأقبلتِ الخيْلُ المسوَّمةُ الشَّقْرُ

عليهن من آل المقلد غلمة

مَسَاعِيرُ حَرْبٍ لا يَضِيْعُ لَهُمُ وَتْرُ

تُثَقِّفُ مُنْآدَ الرِّماحِ أكُفُّهُمْ

وتمنحُها طولاً إذا شانها قصْرُ

كأنهم والسابغات عليهم

إذا ما دجى ليل الوغا أنجم زهر

ويصف الأستاذ عبداللَّه الجشي الواقع الثقافي لعصر الشاعر بأنه عرف انتعاشاً في الحياة الفكرية، وبرز عدد من العلماء المبرزين في العلوم العقلية والفلسفية الدينية وغيرها[12] .

ويترجم مؤلف “أنوار البدرين” لعدد من أبرز هؤلاء العلماء[13]  بيد أن هذا لا يعني أن هذا الفكر والأدب كان ينسجم وتطلعات الإنسان العربي في الحرية والإبداع والإضافة الحضارية. فالثابت أن المنطقة العربية الإسلامية عرفت -آنذاك- ركوداً عاماً مظلماً بعد سقوط بغداد مما نتج عنه اهتزاز حاد في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كان سبباً في انهيار مشروع الحضارة العربية الإسلامية، الذي تناثر في وحدات إقليمية غير ثابتة. مما جعل طابع الصراع دامياً بين إقليم وآخر، وبين قبيلة وأختها.. وبين طائفة وأخرى.. وقد غدا النشاط الإقطاعي هو الأكثر بروزاً.. خصوصاً بعدما نشرت الخلافة العثمانية سيطرتها على ما تبقى من الخلافة الإسلامية العباسية.

في هذا الجو الموبوء بالحروب والدماء والقمع والمطامع السياسية والطبقية خمدت روح الإبداع في العقل العربي.. وسقط الشعر تحت سنابك البديع والصنعة، وتقليد الأولين تقليداً استرجاعياً تكرارياً ميتاً، لا إضافة فيه.. حتى غدا هذا الوضع الثقافي السلوكي نمطاً معرفياً متداولاً لا يجرؤ أحد على المساس به، أو تغييره وإعادة قراءته.. وكان الشعر بحكم طبيعته اللغوية وخصائصه الفنية وكيميائيته التاريخية عصياً على التغيير السريع.. والاقتحام المباشر. ولذلك لم يكن يتجاوز وضعيته التقليدية هذه كل من أراد تحقيق مشروعية أدبية انتهازية.

لقد كان هذا سبباً رئيسياً في حدوث القطعية بين الشعر والواقع، وبين الشاعر واستيعابه الواعي لحركة التاريخ المتطورة.. مما جعل بعض الدارسين يقفون -اليوم- مدهوشين أمام غياب النص الإبداعي الاختراقي، للواقع والمجتمع واللغة والتراث. وقد اندفع ياسين الأيوبي في دراسته عن صفي الدين الحلي -وهو من النماذج الشعرية البارزة في عصر الانحطاط العربي- مؤكداً عدم وجود نصوص شعرية تعبر عن البنية الحضارية العربية المنهارة. وقد فات هذا الباحث أن المجتمعات الإنسانية مهما أصيبت من نكسات فإنها لابد وأن تتصدى لها عبر صيغ عديدة بارزة ومختفية.. تأتي في لحظات تاريخية متمردة على القيود والظروف والإعاقة.. صحيح أن المجتمع العربي تعرض لهجمات خارجية شرسة وصراعات طبقية داخلية.. غدا لهذه الأسباب مشغولاً بمواجهة محاولات الفتك به والسيطرة على روحه ومقدراته.. عن مواصلة مشروعه الحضاري والفكري والإبداعي.. غير أن هناك نقائض موضوعية نبعث من داخل هذه الظاهرة التاريخية المهشمة.. نراها -تبرز مرة- في العلاقة ابن خلدون كمفكر اجتماعي، وتاريخي مرموق الرأي.. وتارة تتفجر في موهبة ركن الدين الوهراني، مؤلف “المنامات” بأدب سياسي صارخ وجارح لتركيبة السلطة السياسية والاجتماعية والثقافية في عصر الدولة الأيوبية.

أما على الصعيد الشعري فإنني -شخصياً- لم أقع على نصوص حاولت التمرد على النمط الشعري الثابت في تلك الفترة المظلمة.. مثلما وجدته في شعر الخطي.. هذا الذي حاول اختراق التقليدي بزخارف بلاغية فارغة. اختراقاً متمرداً.. مغامراً وجريئاً.. معبر بذلك عن درجة حرمان اقتصادي، وفقر فكري واغتراب سياسي شديدة الوقع.. إن هذا جعل الشاعر ينطوي على حس تاريخي ناضج.. وثقافة فنية وشعرية واستيعاب للموروث الشعر العربي الذي حاول إعادة إنتاجه في شعره منذ وقت مبكر، مما يجعلنا نعيد النظر في الاحتفاء التاريخي بالدور الاسترجاعي الذي قام به البارودي في عصر النهضة العربية بمصر.

أيها السادة: إن قراءتنا لنص الخطي يجعلنا أمام إشكالية جديدة، فهي تضعنا أمام عصور شعرية متداخلة.. يقوم خلالها نص الخطي بإزاحة صوت شعري أموي -مثلاً- وإحلال صوت شعري عباسي.. يزاوج بين ديباجة جاهلية بفنية أبي تمام، لكن هذا لا يقضي على طبيعته الانفجارية لأنه حين يتفاعل مع غيره من النصوص، وينتمي إلى مجال تناصي.. فإنك لا تجد ثمة أبوة فنية مسيطرة.

ليس هناك نموذج شعري محدد يحتذى لأن مفهوم التناص يقضي عليه[14]  أن (الأنا) التي تتعامل مع النص ليست موضوعاً غفلاً إزاءه -كما يقول- (رولان بارت) – لأن (الأنا) التي تقترب من النص هي في الواقع مجموعة متعددة من النصوص الأخرى، ذات (شفرات) لا نهائية، وبالأحرى فاقدة الأصول قد ضاعت مصادرها[15]  كذلك (فالنص عادة ينطوي على مستويات (أركيو لوجيه) مختلفة، على عصور ترسبت فيه تناصياً الواحد عقب الآخر دون وعي منه أو من مؤلفه)[16]  عبر جدلية النفي والإثبات هذه نواجه في نص الخطي -أو قل نصوصه- أصواتاً شعرية من مراحل شعرية متفاوتة.. تبدأ من امرئ القيس حتى صفي الدين الحلي.. غير أنه يقف عند شاعرين اثنين هما أبو نواس وأبو تمام، وقوفاً انبهارياً، لكن ذلك لا يقضي على صوته الشعري المنفرد.

فالقصيدة الأولى من الديوان يكتبها بروح نواسيه:

وشابها نطفة من فيه صافية

كالراح فهي من الصهباء صهباء

لَحَا على شربها قومٌ وما علموا

يا ويحهم إن ذاك اللوم إغراء

ساء الذين نهوا عن شربها ولقد

شُرَّابها أحسنوا صنعاً وما ساؤوا

ويتذكر ذا الرمة وهو يرثي عبدالقاهر بن عبدالرؤوف الحسيني في صدر هذا البيت، ويزيحه في عجزه ليثبت نفسه:

(ما بال عين لا تجود بمائها) والنفس قد طويت على غمائها ونلتقي بصوت المتنبي وعمر بن أبي ربيعة في بيتين متواليين من قصيدته التي بدايتها:

ألا هل تجاوزت لخِبَاءَ المُحَجَّبَا

بحيث طباء الإنْسِ تحجبها الضُّبَا

وجزت على حي بمنعرج اللوى

فاهديت مرجوع التحية زينبا

ويقفز إلى أبي محجن في صدر الإسلام ليهيم بخمرته التي لم يذقها:

سأشربها حياً وإن مت فانضحي

ثراي بها يروي صداي رويتِ

وحين يشعر باغترابه الاجتماعي -وقد كان ممضاً- فإنه يطل من نافذة المتنبي:

ما مقامي فيهم -وحاشاك- إلاَّ

كمقام اليقظان بين النيام

ويتغزل ولكن على خطى عمر بن أبي ربيعة:

يثني المُلِمُّ بِهَا عَنْ ضَمِّ قامتِها

حُقَّان في الصدْرِ من عاج نقيانِ

ويمدح وزير البحرين ركن الدين محمود بن نور الدين ابن شرف الدين بأسلوب أبي تمام الذي يجمع عدداً من الصفات والتشبيهات في بيت واحد:

كسروي العدالة اسكندري الـ

ـفتح والعزم رستمي الكفاح

أحنف الحكم أكتم الرأي زبير الثأر

قسُّ البيان كعب السماح

بل إنه ينسى وهو يعيد إنتاج شعر أبي تمام إن بيتاً مثل هذا البيت هو لأبي تمام وليس له:

ألم ترَ أنَّ الشمسَ زِيْدَتْ مَحَبَّةً

إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

ويثور على عمود الشعر العربي -كما فعل أبو نواس- مستغرباً من بلاهة أولئك الواقفين على الأطلال بلا جدوى:

ماذا يفيدك من سؤال الأربع؟

وهي التي إن خوطبت لم تسمعِ

سَفَهٌ وقوفك في رسوم رثة

عجماء لا تدري الكلام ولا تعي

فَذَرِ الوقوفَ على محاني منزل

عاف لمختلف الرياح الأربع

وأمسك عنان الدمع عن جريانه

في دمنة لا تحمدنك ومَرْبَع

إن تداخل النصوص في شعر الخطي له قيمة تاريخية باعتبار المرحلة التي عاش فيها.. ففي القرن العاشر الهجري عاشت مظاهر شعرية فقدت حرارة التعبير وبهاء الشعر.. ومن يقرأ في الموسوعات الأدبية التي سجلت أبرز نصوص تلك الفترة.. ومن بينها “سلافة العصر” لابن معصوم – فإنه سيجد صيغاً شعرية باردة وموضوعات تافهة.. لا تتعدى التغزل بالغلمان، واستخدام القواعد النحوية في تراكيب شعرية لاهية يعبر عنها اصدق تعبير أحد شعراء تلك الفترة إبراهيم بن حمد الأحسائي الحنفي الذي يقول:

ولا تك في الدنيا مضافاً وكن بها

مضافاً إليه إن قَدِرْتَ عليهِ

فكلُّ مضاف للعوامل عُرضة

وقد خُصَّ بالخفضِ المضافُ إليهِ

لقد استنزف شعراء عصر الانحطاط طاقة البلاغة العربية استنزافاً جعل من فنونها البديعية والبيانية هياكل فارغة في أشعارهم.. لهذا نجد الخطي ينطوي على حس تاريخي يخترق زمنه ليتصل بمنابع القصيدة العربية التراثية.. محاولاً تكوين ذاكرة شعرية جديدة تسعفه إذا ما أراد الانطلاق إلى آفاق شعرية جديدة.

من هنا فإن ظاهرة (التناص) في شعر الخطي تسجل تحولاً تاريخياً في مسيرة الشعر العربي في تلك الفترة هي التي تجعلنا نجد تداخل أصوات أبرز شعراء العصر الأموي والعباسي في أصوات الشاعر محارباً النمطية الشعرية و (الميتافيزيقية) في مجتمعه وعصره:

خلقت لم أدر ما وادي العقيق ولا

دار تأبَّدَ مأواها بماوان

ولا الوقوف على الدارات من أربي

ولا مخاطبة الأطلال من شأني

ولا زجرت غراباً في تعرضه

ولا أهبت بحادٍ خلف أضعان

ولا وقفت لغادي المزن أسأله

سقي المنازل أفوت بعد سكان

إنه بهذا التمرد الجميل يحاول تأسيس مشروع تجديدي في سياق تلك المرحلة المتخلفة، أو أقل: إنه يشكل بذلك مقدمة فنية لنمو تاريخي كان ينبغي أن يتواصل في أصوات الشعراء ممن جاؤوا بعده.. لو نال نصيباً من الاهتمام الذي ناله البارودي هذا الذي كان في منطقة ضوء حضاري وثقافي وإعلامي أبهر مما كان عليه مجتمع الشاعر.الخروج على المألوف

إن قيامنا بجدولة إحصائية لقصائد الشاعر الواردة في ديوانه المطبوع طباعة رديئة ووحيدة[17]  -صدفة- سنة 1373هـ سوف تقربنا من الملامح العامة لشعر الخطي.

وهي لا تتعدى -على كل حال- الموضوعات المعهودة في تاريخ القصيدة العربية التراثية.. غير ما يمتاز به من وحدة القصيدة التي شكلت مقابلة فنية في شعره أمام القصيدة التراثية المتعددة التي ترتاح إليها النفس من منظور نقدي تراثي لأنها تنتقل بكل الأغراض من مقصد إلى مقصد فالنفس تمل من الكلام في أمر واحد حسب ما يراه حازم القرطاجني[18] .

أما الخطي فإنه يفعل عكس ذلك حين يكتب عدداً كبيراً من قصائده على نمط واحد فهو يمدح الأعيان في 21 قصيدة ولها غرضها المحدد.

ويهجو في ثلاث، يفخر بنفسه -وهو يفعل ذلك في بداية معظم القصائد- في أربع قصائد، ويناجي في اثنتين.. له خمس عشرة قصيدة في رثاء العلماء وبعض الرموز الاجتماعية، ويعتب على بعضهم في ثمان. يتغزل في قصائد عشر بفتيات فارسيات وفي حبيبته سعادة التي أحبها منذ وقت مبكر من عمره. يصف الطبيعة -حيث تسيطر -غالباً- دلالة البحر والنخل- في ست وعشرين قصيدة وله قصيدة واحدة في الخمر. وأخرى في الحشيشة فقد أباح المتصوفة في مصر -آنذاك- شربها!! لكن الخطي يستخدمها كموضوع شعري كان (مودة) لدى شعراء عصره.. ليذمها في نهاية القصيدة!! من وجهة نظر دينية أما قصائده في الحنين إلى الوطن فتبلغ العشرين.

إن معظم هذه القصائد كانت تجري على نسق واحد تقريباً غير أن هذا لا يعني أن الشاعر لم يكتب القصيدة على المقاييس التراثية التقليدية من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن شعره لم يتخلص من آثار نمطية عصره الشعرية، وبعض عيوبها، وهذا أمر لم يكن يتحقق للشاعر أو أراده.. فكيف به وقد كان يكتب شعره ذاك من داخل خارطة الثقافية التراثية، بل في أكثر من مناطقها وعصورها ظلاماً وتخلفاً.

بيد أن عوامل عديدة ساقت صوته الشعري إلى الانحراف والخروج على سياق مرحلته، كان من بينها إحساسه الفني بنفاد طاقة الأطر الشعرية – آنذاك وعدم مقدرتها على التعبير ضمن جمالية القصيدة التراثية النموذجية.. كما هي في أبهى حللها عند أبي نواس، وأبي تمام والمتنبي، والشريف الرضي، وغيرهم من شعراء القصيدة العربية التراثية.

لذلك فإنه سمح لنفسه أن يمارس شيئاً من الثورة الفنية على مقاييس عصره الشعرية.. التي كانت ثورة تصحيحية.. لا ثورة جذرية.. وهي ثورة نسبية بل متواضعة إذا ما وضعناها في سياق الثورة الشعرية التي قادها المجددون في العصر العباسي لكنها بالنسبة لمرحلة الشاعر المنحطة كانت ثورات ذات بال لأنه على الأقل يثور على بلادة الحس التاريخي والشعري التي كانت علامة بارزة في ذلك العصر ولذلك فهو ينهج خطى النواسي في الثورة على المقدمة الطللية وعلى الأوصاف الجاهزة الاستهلاكية بأسلوب الطائي كما أشرنا إلى ذلك من قبل وكان صنيعه هذا يدفعه إلى أن لا يتحرج من نظم ست رباعيات من الدوبيت[19]  على اعتبار أن هذا اللون من المواضعات الجديدة التي حاولت تحرير مواهب الشعراء المطمورة تحت ركام المحسنات وعروض الخليل.

وهناك قصيدة كتبها الشاعر في هجاء متشاعر الذي نصحه بأن يتعاطى أي عمل ماعدا الشعر. في هذه القصيدة تفاجئنا نثرية طاغية عبرت عن روح ساخرة وحس اجتماعي متوتر، وكأن القصيدة عرض (بانورامي) للنشاط الاقتصادي الشديد التنوع -آنذاك- في هذه المنطقة.

وتأخذ هذه النثرية موقفاً خاصاً في نصوص الشاعر التي تسيطر عليه حين يحرر نفسه من أثقال المحسنات وفخفخة البديع. منحرفاً بهذا الأداء المضاد عن سياق التقليد الشعري الذي ساد عصره أنه يخترق عاجية الشعراء واللغة -إلى حيث تنفس بالشعر على أرض الواقع والمجتمع، مما يجعل لهذه الظاهرة النثرية في شعر الخطي نغمة خاصة، وأهمية تاريخية تحددها الثورة على تلك الشعرية المتزمتة، وإشاعة لغة شعرية جديدة نبعت من هموم الناس وحركة الواقع مشكلة تعبيراً صادقاً عن التحام الناس العاديين.

إن ثورته تكمن هنا في اقتحامه عنجهية ذلك الشعر بأسماء هؤلاء البسطاء. الذي كان يحقق للشعر ولهم معنى.

وقال لما بلغه -رحمه اللَّه- من متشاعر بالقطيف بعض الكلمات، والمستهل للغنوي:

اعمل لنفسك مثقالاً ومعيارا

واسرر أباك بأن يلقاك عطارا

فقال أبو البحر رحمه اللَّه:

أو فاتخذ لك سنداناً ومطرقة

واعمل متى شئت سكيناً ومسمارا

أو فاتخذ لك منشاراً ومِقشَرَة

وكن كنوح نبي اللَّه نجَّارا

أو صايغاً تسبك العقيان تبرز من

إبريزه للنسا صفاً ودينارا

أو فاتخذ لك مزماراً ودربكة

وعش لك الخير طبّالاً وزمّارا

أو كن فديتك صفّاراً فليس على

علياك بأس إذا أصبحت صفّارا

أو كن كصاحبك الأدنى أبا حسن

أعني عليا فتى عمران زرّارا

أو فاتبع ابن مهنا في بزازته

أو فامش خلف فتى (شنصوه) قصّارا

أو فاسأل ابن مهنا علم صنعته

مما يفيدك بالدينار قنطارا

أو عالج الأتن من أدوائهن وكن

شروا (خميس بن خضاموه) بيطارا

أو فاقتلع من رشالا الطين متخذاً

منه الجرار وعش في الخط جرّارا

أو فاقتن الأتن واحمل فوقها حطباً

فخير شيء إذا أصبحت حمّارا

أو فاحمل الفخ واذهب حيث شئت فصد

به لصبية أهل الخط أطيارا

وإن سمعت مقالي فامض متكلاً

على إلهك في (الأبوام) بحارا

وإن ترفعت عن هذا فحي على أسـ

ـتغفار ربك تلقى اللَّه غفارا

أو قيماً في بيوت اللَّه تسمعنا

أذانك العذب آصالاً وأسحارا

أو منشداً مدح خير الناس حيدرة

أو قارئاً في نواحي السوق أخبارا

ولا تُلِمَّ بِربع الشعر إنّ له

ظعناً تأخرت عن مسراه إذ سارا

قد حلقت بنفيس الشعر طائرة

عنقاء مغرب فاقعد عنه إذ طارا

وهاكها كشواط النار لافحة

أثناء قلبك لا تألوه إسعاراًالحنين إلى الوطن

إن المحور الأساسي الذي يشغل بال الشاعر في معظم قصائد الديوان هو الحنين إلى الوطن.

لكن ما هي حدود هذا الشاعر أنه بلا حدود!

نعم.. فهو يولد في التوبي.. قرية من قرى القطيف، سنة 970 أو 980هـ كما يرجح خالد الفرج.

ويتعلم على يد أبرز العلماء القطيفيين.. لكنه يعبر البر فاراً إلى البحرين.. وهناك يساجل بعض شعرائها وعلمائها الواردة أسماؤهم في فصل “شعراء البحرين والعراق” من كتاب “سلافة العصر” لابن معصوم. ويراسل ويجاري أبرز الرموز الفكرية والأدبية في عصره.. حتى نال تلك الشهرة التي أشار إليها في السبيطية.. فهو الرجل المشهور.. كما أكدت الموسوعات الأدبية التي اهتمت بذكر شعره.. حتى ورد ذكره ونتف عن حياته وبعض شعره في “خلاصة الأثر” للمحبي، “أعيان الأمين”، و “أمل الآمل” للحر العاملي، و “سلافة العصر” لابن معصوم، و “نفحة الريحانة” للمحبي، و “أنوار البدرين” للقديحي.. واشتهرت مجاراته للعاملي صاحب الكشكول. وفي هذه القصيدة يشير إلى ما يعانيه من (جهل بمقداره) أمام نفر من أعيان البحرين. إذن.. فهو رجل مشهور.. ولكنه يشعر بالاغتراب الأدبي. حاله كحال المتنبي.. فهو (يقظان بين نيام).. بل أنه يقسم:

لأفارقن الخط غير معول

فيها على من ضَنَّ أو من جادا

بلد تهين الأكرمين لِلُؤمِها

شروى الزمان وتكرم الأوغادا

بيد أن علاقة الشاعر بوطنه لا تنحصر في هذه العلاقة المجتمعية المضطربة التي تجيء عادة في ظروف خاصة.. وإنما هو يلتزم بمواطنيته التزاماً سياسياً عملياً، اضطره إلى الهرب مع جماعة من أشراف القطيف سنة 999هـ.. ومن هناك تنقل بين شيراز وأصفهان.. بعيداً عن أهله وأصدقائه..

إنه يحن إليهم حنيناً بلاغياً يذكرنا باستخدامات أبي تمام القرآنية في تركيب الصورة الشعرية:

فارقتكم فَجَعَلْتُ زَقُّومَ الأسى

زاداً وغَسّاقَ الدُّمُوع شَرَابَا

أكَذَاكَ كُلُّ مُفارق أمْ لَمْ يكنْ

قبلي مُحِبٌّ فارق الأحْبَابَا؟

يَا هَلْ ترونَ لِنازح قَذَفَتْ بِهِ

أيْدِي البعاد لِجُدِّحَفْص إيابَا

ويتدفق ينبوع الشعر صافياً رضيا، إلى تلك الربوع التي تمتد من القطيف إلى عنك إلى بنكات إلى سيهات.. إلى جدحفص إلى مقاب (والأخيرتان من قرى البحرين).

إنه أول شاعر خليجي يحقق الوحدة العربية في هذه المنطقة -عملياً- وشعرياً- فبعد سنوات طويلة من التشرد والغربة، يعود إلى الوطن، يسبقه طوفان كاسح من الأشواق والعواطف:

هلا سألتَ الرَّبْعَ من (سَيْهَاتِ)

عن تلكم الفتيان والفَتَياتِ

ومَجَرِّ أرسانِ الجياد كأنها

فوقَ الصعيد مَسَارِبَ الحيَّاتِ

ومُجَدَّفَاتِ السفْنِ أدنى برها

من بحرها ومبارك الهجمات

حيث المسامع لا تكاد تفيق من

ترجيع نوتِّي وزَجْرِ حُدَاة

إنَّ (القَطيف) وإنْ كلِفْتُ بحبها

وعلت على استيطانها زفراتي

إذْ أيْنَ جُزْتُ رأيتُ فيها مدرجي

طفلاً وأترابي بها ولِدَاتي

لأجَلُّ ملتمسي وغاية مُنْيَتِي

إني أقيم بتلكم الساحات

فسقى الغمام إذا تحمل ركبه

تلك الرحاب الفِيحِ والعَرَصَات

واجتازت المزنُ العِشارُ فطبقت

بالسقي من (عَنَكٍ) إلى (بَنْكَاتِ)

ويقابل هذا الحنين الجارف شعور حاد بالاغتراب السياسي..

إنه لا يرضى الإقامة بشيراز رغم استمتاعه بجوها وارتياحه إلى وجوه بناتها.. لذلك فهو يتأوه على (أوال) ولا يرضى بأن يبتاع أزقة فارس (بالفيح من عرصاتها والدور) رغم:

إن شيراز بلدة لا يَكَادُ الـ

ـوَصفُ يأتي وإن تناهى عَليْهَا

ليس تدري سُكَّانها أسرور النـ

ـفس يأتي من خلفها أم لديها

لكنها.. ليست عنده.. بأبهج من (أوال) جناباً ولا يقايض وطن غيره.. بوطنه.. الذي يسكنه هاجساً وتاريخاً وحياة. ما كنت بالمبتاع دارة سروها.. يقصد شيراز.. يوماً بفاران.. ولا مقابا.. وهي أماكن في البحرين.

إن الخيوط المتبعثرة هنا -سوف تتجمع في قلوبنا إذا ما استبطنا حالة الذعر التي أصابت شاعرنا حين ضربه طافر من الحوت.. لتتفجر الدماء من وجهة وكرامته الوطنية.. مدراراً.. مدراراً.. مختلطة بالبحر وسادة الأفق.

وإذا ما علمنا الأسباب وراء فراره من وطنه، متشرداً غريباً ليصبح ذلك الإنسان الغريب.. الغريب الوجه واليد واللسان.

إن هناك وجوهاً في (القطيف) يخافها وإلا (لما طال بالبحرين عنك ثوائي) إلا أن البحرين التي شكلت امتداداً جغرافياً وتاريخياً واجتماعياً وفكرياً لوطنه شرعة مباحة لجملة من الاستعمارات الفارسية والبرتغالية والعثمانية.. التي كانت تتصارع في المنطقة. لذلك فالبحرين التي استوطنها.. لا عيب فيها.. غير هذا الشبح الاستعماري الذي طارده بشكل أزلي.. فإذا حياضها شرع لورد الكلب والخنزير. مما جعله يبقى بعيداً عنها وعن وطنه ليموت غريباً بشيراز سنة 1028هـ.

أحدث التعليقات

الأرشيف

Newsletter
Ads
Comments
All comments.
Comments